بين حديث عن مناطق آمنة سعت لها تركيا منذ عام 2014 كشرط لمشاركتها فى ما سُمى بالحرب على داعش فى سوريا، وحصلت عليها فى العام 2016 حينما بدأت غاراتها على أكراد سوريا وداعشها وجيشها، وتحدّث عنها الرئيس الأمريكى فى بداية ولايته وأعلنها فى لقائه مع العاهل الأردنى الملك عبدالله عند زيارته لواشنطن منذ شهرين. وبين حديث عن اجتماعات تهدئة ووقف إطلاق نار فى أستانا كازاخستان والمموهة بمصالح قوى باتت لها كلمتها على الأرض فى ثلاثية عسكرية فرضتها روسيا وإيران وتركيا، ثم انضمت لهم أمريكا مؤخراً بقوى عسكرية ومئات من الجنود. وبين حديث عن مستقبل فى «جنيف 5» تحمل قضاياه المعلنة على موائد التفاوض هيئة انتقالية للحكم ودستور وانتخابات ومكافحة إرهاب، بينما لا تحمل نيّاته إلا إقصاء بشار وسيطرة المعارضة التى لن تكون إلا عنواناً جديداً لما يحدث فى ليبيا والعراق واليمن. بين كل هذا تأتى الصورة لنا فى سوريا بينما يتنازعنى، ومثلى كثيرون، مخاوف على مستقبل أرض عربية أرى فيها ملامح ما حدث فى البوسنة والهرسك عام 1995.
ففى مدينة دايتون الأمريكية بولاية أوهايو جاء فى العام 1995 اجتماع أطراف الصراع الدامى فى البوسنة والهرسك وممثلى القوى الداعمة لتقاسم ما اختلفوا وتصارعوا عليه باسم الدين والسياسة والمصالح والنفوذ وكل شىء. اجتمع الصرب والكروات والبوسنيون. جلسوا واتفقوا على تقسيم الدولة الصغيرة لما عُرف باسم فيدرالية البوسنة والهرسك وجمهورية صرب البوسنة مع نشر قوات حفظ السلام الدولية لضمان عدم تكرار النزاع المسلح الذى دمر البلاد وأسقط آلاف القتلى والجرحى وارتُكبت باسمه أبشع الجرائم الإنسانية. وعُرفت الاتفاقية يا سادة باسم ذات المدينة الأمريكية التى بدأت بها الاجتماعات رغم توقيعها فى باريس بعد شهور من المفاوضات. وهكذا كان التقسيم وهكذا جاء الحل.
أما نصوص الاتفاق فجاءت مشابهة لما نسمعه اليوم فى مفاوضات سوريا أياً كان موقعها، يلتزم الجميع بوحدة أراضى البوسنة -رغم ما توصلوا إليه من تقسيم- يحصل المسلمون والكروات على ثلثَى مقاعد البرلمان والصرب على الثلث الثالث. تكون الحكومة المركزية هى المسئولة عن السياسة الخارجية والمواطنة والهجرة. عودة اللاجئين الذين اضطرتهم الحرب لترك البوسنة، مجلس رئاسى بدلاً من رئيس واحد للبلاد، ويتكون من ثلاثة رؤساء يمثل أحدهم المسلمين ويمثل الثانى الكروات ويمثل الثالث الصرب وينتخب الأول والثانى فيدرالية البوسنة والهرسك بينما ينتخب الثالث جمهورية صرب البوسنة. وتكون مدة المجلس الرئاسى 4 سنوات يتم فيها تداول الرئاسة بين ثلاثيته كل ثمانية أشهر. وبغضّ النظر عن اختلاف الظروف والبيئة والمكونات الأساسية للصراع فى البوسنة والهرسك وفى سوريا، فإن التساؤل الذى تفرضه وقائع الأمور على الساحة السورية التى عانت عبر ست سنوات، لا ثلاث، من ويلات مبكية وستظل فى جبين الإنسانية التى تدّعى منظمات العالم وحكوماته الدفاع عنها، تشير لعدم استبعاد نفس السيناريو لوقف تلك المهزلة. فهناك قرابة 4 ملايين لاجئ سورى خارج سوريا وقرابة 3 ملايين نازح من مناطق باتت لا تصلح للحياة. وهناك ما يقرب من 6 ملايين طفل سورى عاشوا ويلات الحرب وفقد الأمن والعزيز، وهناك بطالة فاقت 60% من السكان، وهناك وطن فقد ملامح الاستقرار فى كل شىء عبر بروز القوى المسلحة الممولة من كل جانب باسم الديمقراطية والحرية. فتُرى عن أى تسوية يتحدثون فى جنيف وعن أى وقف لإطلاق النار يخططون فى أستانا بينما يعانى اللاجئ والطفل والنازح فى بلادنا سوريا ويتجدد القتال فى محاولة لإثبات واقع على الأرض يفرض كلمته على مائدة التفاوض؟!
ولذا تبقى عينى على سوريا وسيناريوهات البوسنة المطروحة عليها وقلبى لا يردد سوى كلمة واحدة «هنا دمشق من القاهرة».