لم أنسَ وقفته متسمِّرًا أمام البابِ نصف المفتوح، مبهوتًا مما قيلَ.. في الصف الخامس الابتدائي لا تستبين ملامح الكون، ولا تعرف سوى حدود شرنقتك..
كانَ في الغرفة جميع مقرري اللجنة الثقافية، وكنتُ أحدَهم.. جاءوا بنا جميعًا لنجلس إلى شيخ من وزارة الأوقاف أُرسِل في جولة على المدارس الابتدائية، من أجل ملامح لتجديد الخطاب الديني، أيام حكم مبارك..!
ظننتُ والمدير يطلبُني بالاسم، أنني سأشارك في خطة لتعديل حال التعليم، أو سيبلغونني خبر وفاة الزعيم لأنقله لأصدقائي، صُعقت عندما دلفتُ إلى غرفة الاجتماع فوجدت خمسة وعشرين طالبًا مثلي، هم مقررو اللجان الثقافية في المدرسة، جيء بنا مجاميع، وظيفتنا الاستماع إلى ما سيقوله الشيخ.. بالإضافة إلى كوكبة من المدرسين والعاملين.
على كلٍّ أنا مُهِمّ، والدليل أنني أحد 25 فتى يمثلون وجه مَدْرَسةٍ من بين أربع مدارس في منطقتي السكنية..أخيرًا ظهرتُ على الخريطة.. كأنني جزيرة فُسِح لها حكم ذاتي، كنت سعيدًا أيَّما سعادة، وأنا أنتقل إلى الصفوف الأولى.. تدعمني ثقافتي الواسعة..!
كنتُ في ذلك الحين قد اطَّلَعْتُ على كتيِّب بعنوان (كنتُ قبوريًّا) وهو يوزَّع على المصلين مجانًا يهاجم التصوُّف، كانت هذه ثقافتي الواسعة، وكل شيء أعرفه.
كان صوتُهُ عاليًا، وكانَ أعمَى، لكنه بليغ حقًّا، والدليل أنني لم أفهم شيئًا...!
بعد أن أنهى خطبته بدأَتْ مرحلة الأسئلة.. في هذه اللحظة ظهر زميلنا روماني المسيحي يريد أن يسأل أبلة إيمان مدرِّسة العلوم عن شيء، وكانت جالسةً تستمع بخشوع إلى الشيخ وهو يرد على استفسارات المستفتِين.. السؤال الأول (قرأ المدير إلى جواره): هل يجوز أن يكون في بلد مسلم محلات تبيع الخمور؟
كان من الواضح أن السؤال هدفُه جرُّه إلى المحرمات الأربعة (المال والجنس والدين والسياسة)، هي «التابوه» الأخير تحديدًا.. أجاب في ذكاء جمّ، وما زال صوته جهوريًّا: (لا يجوز للمسلم أن يفتح مثل هذه المحلات، فالخمر ملعون فيها عشرةُ نفر.. ولكن هناك محلات موجودة، أسأل أنا صاحب السؤال: هل هذه المحلات لمحمد وعلي وحسن، أم لمينا ومرقس وروماني؟!).
تغيَّرَت ملامح روماني الذي ما زال واقفًا ينتظر اللحظة المناسبة ليدخل.. صدمَتْه المفاجأة، ولم يعد يدري لماذا ذُكر اسمه، ومن هما مينا ومرقس.. استجمع شجاعته، وقرر أن يجلس حتى نهاية السؤال التالي ليقتنص فرصة الهدوء ويسأل أبلة إيمان عما بدا له.
السؤال الثاني: (لماذا أُمرنا أن ننام على جنبنا الأيمن..؟!)
أجاب الشيخ وما زال صوته معه: (لا ينبغي أن نسأل عن الحكمة، ما دام التشريع واضحًا، ومع ذلك وجد العلماء فوائد جمّة للنوم على الجانب الأيمن، منها أن الكبد يكون كالفراش الذي يرتاح عليه القلب.. وأسألك: كلنا ننام، لكن مينا ومرقس وروماني ينامون على جنوبهم اليسرى أو ظهورهم، ومحمد وحسن هما فقط من يحسنان النوم.. أيهما يكون ذلك صلاحًا له ولدنياه وعاقبة أمره..؟!).
نظرتُ إلى روماني، فوجدتُه مطأطئًا رأسه، يفكر أيرحل أم يبقى، لاعنًا الظروف التي ألقت به في هذا المكان، وإن لم يفهم المقصود تماما!مرَّت أيام طوال على هذه الحادثة، وأنا أحاول أن أتناساها، وأتناسى أن الشيخ لم يعرف معنى كلمة (قبوري) التي سألته عنها، وهي كل ما كنتُ أعرفه..!
شغلني رد فعل روماني كثيرًا..
حتى ذلك اليوم الذي كنت فيه آخذ درسا خصوصيا لمادة (الفرنساوي) في منزل روماني مع صديقنا المشترك أحمد صبري، وكنت قد خدعتُ التعليم المصري بصورة ما، ووصلت إلى الصف الثالث الثانوي..!في انتظار مدرس الفرنساوي (المسيو) سمعنا صوت زميلنا رامي ينادي على روماني من أسفل العمارة:يا روماني..! يا روماني..!!
سأله أحمد صبري: اللي بينادي دا رامي الغلس؟! ابتسم روماني، وقال: أيوة، كان عاوز يسأل عن درس الفرنساوي، بس أنا ما قولتلوش، هياخد الدرس ويورطني مع المسيو، ما بيدفعش.
انفعل أحمد صبري (في اللحظة التي تُقدِّم لنا فيها أمّ روماني الليمون): سيبه دا واد مسيحي ابن (...)!!
تنحنح المسيو الذي وصل إلى التو، وانفجرتُ في الضحك من شدَّة الإحراج، وتنبَّهَ روماني وأمُّهُ وتَجَهَّمَا، وكاد يبكي أحمد صبري والدماء تستأذن في مغادرة وجهه..
تراجع روماني قليلًا..
أظنه فهم في هذه اللحظة فقط ما كان يقصده الشيخ في المدرسة!!