«آباء... وقتلة»: «الوطن» ترصد ظاهرة العنف الأسرى ضد الأطفال.. عندما يتحول المنزل إلى «غرفة تعذيب»
صورة أرشيفية
«وإِنما أولادنُا بيننا.. أكبادُنا تمشى على الأرضِ/ لو هَبَّت الريحُ على بعضِهم.. لامتنعَتْ عينى من الغمضِ»..
بهذين البيتين عبر أحد الشعراء عن فطرة الإنسان، وتلك الغريزة المطبوعة فى كل أم وأب، تجعلهم يبذلون أعمارهم وحياتهم من أجل حاضر ومستقبل أفضل لأبنائهم، إلا أن ما رصدناه خلال الشهور الأخيرة، من جرائم صادمة تتعلق بالتعذيب الأسرى للأطفال، تكشف عن شذوذ بعض الآباء فى الفطرة والسلوك وافتقارهم للآدمية، وتحولهم إلى قتلة. حوادث كثيرة، كان ضحاياها أطفالاً لا تتجاوز أعمار بعضهم أصابع اليد الواحدة، فيما كان الجانى هو الأب، وزوجته وأفراد من أسرتيهما، قصص حزينة ومؤلمة، عاشتها «ندى وملك وآسر» وأطفال كُثر، بعضهم نجا من التعذيب ليتم إيداعه دور الأيتام، فيما أفضى الضرب والتنكيل بالآخرين إلى الموت بعد حفلات من التجويع والحرق والاعتداء الجنسى وتكسير العظام وتهشيم الرؤوس.. تفاصيل مؤلمة وقصص باكية وراء كل ندبة وجرح وحرق يرويها الأطفال عن حفلات تعذيبهم، بينما المهتمون بحقوق الطفل يشيرون إلى أن المفهوم السائد فى المجتمع بعدم التدخل بين الأطفال وذويهم (ابنه ويربيه زى ما هو عايز) هو السبب فى جرائم التعذيب الأسرى، وتخاذل الجيران والمقربين، أحياناً، عن إنقاذ الأطفال. ويؤكد أساتذة علم النفس أن من يعذب أطفاله بتلك الصورة المروعة ما هم إلا متخلفون نفسياً، لا يشعرون بالذنب تجاه جرائمهم، وبعضهم ينتقم من شريكه أو طليقه عبر تعذيب أطفالهما، وإذا سمح أحد الأبوين للطرف الثانى فى الأسرة بتعذيب الطفل، فهو أيضاً مريض نفسياً. ويطالب قانونيون بتعديل قانون الطفل لعام 96 ليشمل مواد لتجريم التعذيب، لأن الجناة يفلتون من جرائمهم بتحويلها إلى جنحة، لا تتطلب حتى الحبس احتياطياً على ذمة التحقيق.. العنف الأسرى ضد الأطفال وجرائم الآباء.. ملف تفتحه «الوطن» فى السطور التالية.
جرائم التعذيب الأسرى للأطفال.. تبدأ بالتجويع وتصل إلى الحرق والقتل
طفلة لا يتجاوز عمرها بعد الـ6 سنوات، تخرج من بيت أبيها بينما تبدو على وجهها بوضوح ملامح الفزع والألم، أصابعها شبه ممزقة من كثرة الحروق، لا يستر جسمها الهزيل سوى قطع الملابس المهلهلة وهى تستنجد بالجيران بصوت غير واضح، فيلتفون حولها فى ذهول وشفقة، ويقدمون لها الطعام، لتأكل بِنهم المحروم من الطعام.
هذا هو حال «ندى»، الطفلة ضحية التعذيب، التى انتشر بكثافة فيديو لها، على مواقع التواصل الاجتماعى، يوضح هروبها من بيت أبيها، فور خروجه وزوجته، فيما أسرعت إلى الاستغاثة بالجيران، وآثار الجروح غائرة فى رأسها وجسدها.
يقول عمرو عرفة، جار «ندى» وصاحب محل دواجن فى شارع بدرخان بمدينة بنى سويف، لـ«الوطن»: «أنا عارف البنت، شفتها مع مرات أبوها، بس كانت أول مرة نقرب منها ونشوفها فى الحالة دى»، لافتاً إلى أنه عندما اصطحبها بعد تلك الواقعة ودخل بها بيت أبيها، وجده فى منتهى القذارة، وبعيداً عن الغرباء حكت له الطفلة المعاناة البشعة التى عاشتها، وكيف كان أبوها يصطحبها إلى دورة المياه ويتبول عليها، كما حرق فمها، عقاباً لها على تناولها بعضاً من طعام أخيها غير الشقيق من زوجة الأب.
يؤكد «عمرو» أنه لم يصدق ما رآه بنفسه من آثار تعذيب بشعة تغطى الطفلة بالكاملة، وحروق من الدرجة الأولى كادت تلتهم أصابع يديها، بعد أن وضع أبوها يديها فى إناء به ماء مغلى ليعاقبها، متابعاً: «الطفلة هادية جداً وماكنتش مصدق إن أب ممكن يعمل كده فى بنته، والأب لديه طفلان آخران من زوجته الثانية، ولا يتطاول عليهما بالضرب أو التعنيف، واكتفى بتعذيب ندى، ابنته من زوجته الأولى».
«طفلة الإسكندرية» تركها أبوها لوالدته فاستغلتها جارتها فى التسول ثم قتلاها وأخفيا جثتها
عقب نشر فيديو «ندى» على مواقع التواصل الاجتماعى قبل 3 شهور تقريباً، وبعد أن حرر عمرو عرفة، أحد جيرانها، محضراً رسمياً ضد الأب، الذى تفنن فى تعذيب ابنته، تم نقل الطفلة إلى مستشفى بنى سويف العام، ليصدر تقريراً طبياً يوضح تعرضها لكافة أنواع التعذيب.
ويشير «عرفة» إلى أن والدة الأب، الذى عذب «ندى» جاءت له فى محل الدواجن الذى يمتلكه وعاتبته، ووجهت له الاتهام بأنه سبب استمرار التحقيق مع نجلها فى تلك الواقعة، حتى الآن: «قلت لها يعنى يرضيكى اللى حصل فى البنت ده، قالت: والله ما نعرف أنه كان بيعذبها، وكنا مقاطعينه لفترة لأنه اقترض منى 65 ألف جنيه، وأهدرها».
«ندى» تناولت طعام أخيها فعاقبها والدها بحرق فمها.. وأحد الجيران: كان يضع يديها فى ماء مغلى
كانت الطفلة «ملك» التى لم يتجاوز عمرها الـ9 سنوات، ضحية تعذيب أسرة كاملة، فى جريمة مرّ عليها 6 شهور بالعمرانية، حيث شارك فى قتلها وتعذيبها وإخفاء جثتها الأب وزوجته وأمه وأشقاؤه، بدأها الأب بالبطش بها وتجويعها وتعذيبها، حيث تعرضت الطفلة بصفة مستمرة للحروق التى شوّهت جسدها، فضلاً عن الإصابات والكدمات التى لحقت بها، وتسببت لها فى إعاقة باليد، وقطع بالشفاه، نتيجة تعذيبها على يد جدتها ووالدها وزوجة والدها.
«ملك» كانت ضحية للتفكك الأسرى والطلاق، حصلت أمها «نورا» على حكم بحضانة الطفلة، وظلت معها 4 سنوات، لم يطلب الأب رؤيتها خلالها، سوى 4 مرات فقط، وفى المرة الأخيرة جاء إلى نادى العمرانية حيث مكان الرؤية، لقضاء الوقت مع طفلته، وهناك خدع طليقته بأنه سيتجول معها قليلاً ويشترى لها الحلويات، واختطفها.
«تقى» تعانى كسوراً وجروحاً فى الجهاز التناسلى وخلع أسنان.. و«زوجة الأب» للنيابة: «وقعت من على السلم»
خلال السنوات الخمس التالية، حاولت «نورا» استرداد طفلتها، دون جدوى، خصوصاً بعد زواجها للمرة الثانية، فيما صب الأب غضبه على «ملك»، وتناوب هو وزوجته على تعذيبها والتنكيل بها، وفى يوم اشتد جوع الطفلة، ففتحت الثلاجة لتناول الطعام، وهو ما كان بمثابة الجريمة التى بدأت بعدها الأسرة مراسم تعذيبها الجماعى حتى الموت.
ضربها الأب وزوجته، وهشما رأسها، وفقاً لما جاء فى محاضر النيابة، ثم استعانا بأشقاء الأب لإحضار سيارة، وإلقاء جثة «ملك» فى النيل، لتعثر قوات الإنقاذ النهرى عليها فى منطقة قصر النيل، بعد 4 أيام من تعذيبها وقتلها، وجاء تقرير الطب الشرعى يؤكد وجود آثار تعذيب كثيرة فى جسد الطفلة وتهشم رأسها، ليُحال جميع المتهمين إلى النيابة وهم 6 أفراد من أسرة الأب، بينهم زوجته وأمه وشقيقته وشقيقه وأزواجهم، الأم المكلومة قالت إنها قبل الواقعة بعدة أيام، راودها حلم بأن «ملك» تستغيث، قائلة «سيبانى ليه يا ماما»، وبعد ظهور الجثة اكتشفت أن أسرة طليقها بالكامل شاركت فى قتل ابنتها وتعذيبها وإخفاء جثتها.
والد «ملك» ألقى جثتها فى النيل بعد حفلات تعذيب بمشاركة زوجته وأسرتها
يقول رامى الجبالى، أدمن صفحة «أطفال مفقودة»، إن ظاهرة تعذيب الأطفال واستغلاهم من قبل ذويهم أصبحت متكررة بشكل لافت للنظر، ومن ضمن تلك الوقائع، جريمة قتل «ملك» وهى طفلة أخرى من الإسكندرية، وذلك منذ 3 شهور تقريباً، وقد راحت ضحية إهمال الأهل، حيث انفصل والداها، ورفض الأب تسليم الطفلة إلى أمها انتقاماً منها بعد الطلاق، ظلت الطفلة التى لم يتجاوز عمرها الـ4 سنوات فى رفقة والدة الأب، وهى سيدة مسنة وغير قادرة على الاهتمام بها بشكل كامل، فقررت ترك «ملك» لجارتها مقابل دفع 50 جنيهاً لها شهرياً، فاستغلت جارتها الطفلة فى أعمال التسول، وتعدت عليها بالضرب والحرق والتعذيب بصفة يومية ومستمرة، وشاركها فى تلك الجرائم عشيقها حارس العقار، فيما كانا يجنيان الأموال يومياً من وراء تسول الطفلة.
يتابع «الجبالى»: «فى أحد الأيام أمعنوا فى تعذيب الطفلة، نتيجة تبولها اللاإرادى، حيث تعانى من اضطرابات نفسية بسبب التعذيب والخوف، فانتهى الأمر بقتلها، وإخفاء جثتها».
يشير أدمن «أطفال مفقودة» إلى أنهم أطلقوا حملات لمكافحة استغلال الأطفال فى التسول، وتولى متطوعون تصوير المتسولين والأطفال، متابعاً: «لاحظنا أن الأطفال يتم نقلهم فى عدة محافظات حسب المواسم، ولكن فى حالة (ملك) على وجه التحديد وهى طفلة لم يتم خطفها، كان من المفترض أنها تعيش فى منزل أبيها إلا أنه أهملها ولم يعد يعرف أى شىء عنها، كما تركتها الجدة لتلك السيدة كمربية، ورغم اختفاء الطفلة، إلا أن الأب لم يحرر محضراً بذلك، فيما أكدت أم (ملك) أنها رأت الجارة مرة واحدة مع الطفلة، وطالبتهم بعدم تركها معها لأنها لم تطمئن إليها، وكررت الزيارة عدة مرات لرؤية الطفلة لكنهم تحججوا بعدم وجودها حتى اكتشفت بتعذيب ابنتها ومقتلها».
«مابتحبنيش»، كلمة ترددها «تقى»، طفلة لا يتجاوز عمرها الـ4 سنوات، تجلس على كرسى متحرك، وتواجه كاميرات التليفزيون، بعد أن نجت من رحلة تعذيب بشعة، حيث صدر تقرير طبى من مستشفى النيل فى شبرا، شارك فيه عدد من الأطباء من جميع التخصصات (عظام ونساء وأطفال وباطنة وجلدية)، يؤكد وجود كدمات وسحجات متفرقة فى جميع جسدها، وأنيميا حادة تعكسها نسبة الهيموجلوبين فى الدم (6)، وكسور مضاعفة فى الذراعين، وكسور قديمة تُركت دون جبس أو معالجة، لذلك التأمت بطريقة خاطئة، فضلاً عن أن أسنانها تم خلعها بآلة حادة وشعرها محلوق ويظهر فى رأسها آثار جروح متعددة، وآثار حروق فى جميع أنحاء الجسم.
ليس هذا فحسب ما نال «تُقى»، فهناك جزء من أنفها مقطوع، كما تظهر على أعضائها التناسلية، وفقاً للتقرير، آثار كدمات وجروح تؤكد تعرضها لاعتداءات جنسية متنوعة.
استقبل أحد أطباء مستشفى النيل، حالة «تقى» فى الطوارئ، وأصر على تحرير محضر لتوثيق آثار الاعتداءات الواضحة على جسدها، وبعدها تم إلقاء القبض على والدها وزوجته، واتهامهم بتعذيب الطفلة.
«مابتحبنيش»، تظل تلك الكلمة على لسان الطفلة، لتكشف مع حالها وما تعرضت له من تعذيب عن بشاعة «الكراهية والحقد» التى تكنها لها زوجة أبيها التى تفننت فى تعذيبها هى و«مصطفى»، شقيقها الذى لا تعلم مكانه ولا مصيره الآن، ووراء كل كدمة وندبة وحرق، تحكى الطفلة قصة مفجعة، عن «نهى» زوجة أبيها، التى كانت تجيد معاملة أطفالها، فيما تعذب أطفال زوجها: «بتأكلنى مِشّ حرَّاق وعيش ناشف»، كان من الطبيعى أن تعانى «تقى» من الأنيميا الحادة، التى دفعت الأطباء لنقل أكياس دم لها قبل أى تدخل جراحى، خوفاً على حياتها.
تقول الطفلة إن المتسبب فى الاعتداءات الجنسية عليها هو والد زوجة أبيها، التى سمحت له زوجة الأب بذلك، بل وجردت الطفلة من ملابسها حتى يعتدى عليها فى ظل غياب الأب.
تقول عمة الطفلة: «ماكناش نعرف إن مرات أبوها بتعذبها بالشكل ده، ولاحظنا آثار تعذيب على كفى تقى نتيجة حروق، فتوجهت بها إلى قسم الشرطة لتحرير محضر ضد زوجة الأب، لكن أمين الشرطة رفض متحججاً بأنها ليست وصية عليها، وبأن من حق الأب تحرير المحضر ضد زوجته».
تضيف: «والله قلنا له كذا مرة طيب سيب لنا البنت نربيها ومش عايزين منك ولا مليم، قال مش هربى ولاد مراتى من طليقها وأسيب عيالى، وكانت النتيجة أن العيال اتبهدلوا».
«تقى» يتيمة الأم، بدلاً من أن تجد فى زوجة أبيها عوضاً عنها، لقيت عذاباً يصعب تصوره، وبالرغم من كون زوجة الأب أماً، وحاملاً فى طفل جديد، إلا أنها تجردت من كل مشاعر الأمومة، لتتحول إلى آلة تعذيب للطفلة على مدار سنوات.
أكد أحد محامى شبكة الدفاع عن الأطفال فى الدقهلية، الذى يتبنى قضية الطفلة «تقى»، أنها حالياً تقيم عند خالتها وتتلقى الرعاية المناسبة، كما تكمل رحلة العلاج، بينما زوجة الأب التى تولت تعذيبها، تدعى أمام النيابة أن آثار التعذيب فى جسد الطفلة نتجت عن سقوطها من السلم أكثر من مرة.
«آسر» طفل عمره لا يتجاوز الـ12 عاماً، فى أثناء وجوده بمدرسة «مينا» للغات، فوجئت مُدرسته بأن الطفل تعرض لحالة إغماء، نقلته إلى المستشفى، وهناك كشف الأطباء عن وجود كدمات وسحجات كبيرة تغطى كافة أنحاء جسده، فى البدء خاف الطفل ورفض الحديث عما تعرض له من ضرب وتعذيب من قبل زوجة الأب.
إلا أنه فى تحقيقات النيابة، أكد أن زوجة الأب كانت دائمة الاعتداء عليه بعصا خشبية، كما نالت شقيقته الصغرى نفس التعذيب على مدار فترة طويلة، وحرمتهم كثيراً من الأكل والشرب، وفرقت فى المعاملة بينهم وبين ابنها، وتحججت أمام زوجها بأنها تفعل ذلك حتى يصبح الطفلان متفوقين دراسياً.
يجلس «آسر» بجسده النحيل على سرير المستشفى، وآثار تعذيب قوية تغطى ظهره، تلك الصورة التى تناقلها موقع «فيس بوك» بكثرة خلال الشهرين الماضيين، فور الكشف عن الواقعة، بينما حاول متطوعون زيارة الطفل والاطمئنان عليه.