إن حوادث الإرهاب الغادرة تنافى كل القواعد الدينية والأخلاقية، وهى أفعال تصدر عن عقول مغلقة تريد أن تمزق مصر، لأن الضربات الموجهة للأقباط مقصود بها مصر كلها، والهدف منها إحداث فتنة طائفية بين المسلمين والمسيحيين، وحدوث فتنة معناه تهديد أمن مصر واستقرارها.
إن مصر قادرة بأبنائنا على مواجهة كل موجات الإرهاب الغادر التى تسىء لديننا الإسلامى الحنيف، وما يحدث باسم الإسلام إنما هو خروج عن الإسلام؛ لأن الرسول لم يدخل إلا حروباً منظمة، وفى قمة صراع قريش مع المسلمين الأوائل لم يأمر الرسول بعملية إرهابية واحدة، ولم يعرف المسلمون الأوائل أية حادثة إرهابية تنطوى على غدر ضد المواطنين الأبرياء. إن الإسلام دين يدعو للتعددية وقبول الآخر ويرفض الإرهاب والتطرف، وبعض الجماعات الإرهابية أخطأت فى فهم النصوص الدينية ولجأت إلى تأويلها بمصطلحات دار الحرب ودار السلام، ووقعت فى خطأ فادح لا يمكن التسامح فيه؛ لأن المسألة تتعلق بالدماء البريئة؛ ولذلك يجب أن يكون للأزهر موقف حاسم فى خروج تلك الفئات الضالة عن الإسلام.
وعلى الرغم من تعدد العمليات الإرهابية، فإن هذا لا يعنى قوة الإرهاب، بل يعنى أن الإرهاب يلفظ أنفاسه الأخيرة لأنه يلجأ إلى العمليات الإرهابية الغادرة المفاجئة ضد المواطنين العزّل، ولا يستطيع المواجهة المباشرة مع رجال الأمن المصرى الذين كبدوه خسائر فادحة فى كل هجمة. إن الإرهاب الغادر مصيره الفشل التام؛ فمصر محفوظة إلى يوم الدين، وجيشها أوصى به الرسول الكريم صلى الله عليه وسلم، وجنودها خير أجناد الأرض. ومثل تلك الأفعال الجبانة والهجمة الشرسة للإرهابيين لن تثنى جيش مصر ومنظومتها الأمنية كلها وجميع أبناء مصر الأحرار، عن الذود عن تراب هذا الوطن الغالى.
وعلى الشعب أن يقف مع الدولة يداً واحدة ضد الإرهاب الغشيم، وتوسيع مواجهة هذا النوع من الإرهاب الأسود، بالضرب بيد من حديد على كل من يريدون أن يزعزعوا أمن مصر. ومن ناحية أخرى لا بد من التنبه إلى طبيعة دور الإمبريالية العالمية فى صناعة الإرهاب وإحداث حالة من الفوضى لضرب الدولة الوطنية المصرية.
ويكشف التحليل النفسى للشخصية الإرهابية عن أنها شخصية مركّبة تجمع فى خصائصها بين خمس شخصيات مصنفة على أنها مضطربة نفسياً وعقلياً. وهذا معناه أن الأسباب العقائدية ليست هى كل ما يصنع الإرهابى. ومن هنا لا بد من إلقاء الضوء على نظريات الصراع بين الجماعات والخبرة المعرفية للإرهابى ومدركاته، فمن الخطأ قصر التحليل على فكرة تعصب المعتقدات وحدها.
وينطوى الإرهاب على تناقضات كبرى تحركه؛ لأنه يدفع إلى فعل كل شىء ولا يتوانى عن أى شىء مهما كان لا أخلاقياً، من أجل انتصار قضيته المتوهمة. ويظل الفكر الإرهابى قاصراً لأنه ينطلق من موقف شديد التشنج والخطورة من شأنه أن يؤدى إلى أعمال شرسة وحقيرة ضد الآخرين، وإلى أعمال انتحارية يروح ضحيتها عادة الأبرياء والإرهابيون أنفسهم.
وليس بوسع أحد أن يفرض على الإرهابى، الذى ينطلق من موقف فكرى خاطئ، قواعد وقوانين من خارج مفاهيمه وحقائقه هو؛ لأنه هو الذى يحددها ويختارها ويلتزم بها بمقدار ما يخدم قضيته، وبما يتناسب مع الظروف التى يكافح فيها. فهو لا يراعى أى عُرف وأية حُرمة اجتماعية أو سياسية، كما أنه لا يراعى أية قاعدة أخلاقية تشكل عائقاً فى سبيله، إذ إنه يضع بتصرفه جميع الطرق والأساليب والوسائل الممكنة دون أن يتراجع أمام الصعاب مهما بلغت خطورتها لأنه يلعب لعبة الموت فقط، الموت من أجل حياة بعينها يريدها دون غيرها. فكل ما هو ممكن فهو مسموح، وكل ما هو نافع وفعّال فهو ضرورى ولا يمكن التخلى عنه لأى سبب من الأسباب خارج مستلزمات حاجته وإرادته التى تهدف بالأساس إلى التغلب على العدو وتحقيق الأهداف المرجوة وانتصار القضية الحقيقية من وجهة نظره. فالمهم أن ينجح، لذلك لا يفرق بين الوسائل العادية والقانونية وبقية الوسائل الأخرى مهما بلغت حداً قصياً من العنف اللاأخلاقى واللاعقلانى. فهو لا يتوانى عن ضرب أى هدف يقع على مطال يده، سواء كان من الممتلكات العامة أو الخاصة، أو كان إنساناً عادياً أو أية شخصية سياسية أو علمية أو اجتماعية، عندما يرى هو أن مصلحته قائمة فى هذا الفعل!
إن الإرهابى يعمد إلى الإمعان فى إثارة آلام وشرور أعمق وأشد، فباسم أىّ حق وباسم أية أخلاق يموت الأبرياء لمجرد أنهم يخالفون الإرهابى فى الرأى والعقيدة؟ وباسم أية أخلاق لا يأمن الإنسان على نفسه وهو يشعر أنه مهدد بتصفيته جسدياً من مخالفيه فى التوجه والفكر؟!
فى الواقع إن الإرهاب كسلاح فى التعامل مع الخصوم هو سلاح بدائى يفقد قيمته وينقض أخلاقياته بسبب مبدأ الضربة العمياء.
وتفقد الأخلاق مضمونها وتتصدع قوانينها مع الإرهابى؛ إذ ليس بإمكان هذه الأخلاق أن تبرر العنف والإرهاب -كوسيلة بين الخصوم- وإلا وقعت فى التناقض والانتفاء والعبثية. فعلى مستوى الأخلاق المجردة تظل المناقضة والمسافة بين العنف والأخلاق لا يمكن تجاوزها.
ولابد من التأكيد على أن القوة تواجه بالقوة (الإرهابى المتمترس)، والفكر يواجه بالفكر (الإرهابى الطارئ). والمواجهة الأمنية والعسكرية وحدها لا تكفى؛ لأنه خيار ينجح فى حسم المواجهة مؤقتاً، ويقتلع أغصان الشجرة، لكن هذه الشجرة تعود لتنبت فى موسم آخر! ولا أقول إن هذه سنة واضحة فى العصر الحديث فقط، بل هى سنة سارية فى تاريخنا العربى كله فى كل اللحظات التاريخية التى ظهر فيها الإرهاب، ثم القضاء عليه، لكنه دوماً يعود لأن البيئة المنشئة له ما زالت تحيا، والذهنية الحاضنة لا تنفك تعمل.
وبالتالى فالمطلوب هو اجتثاث الشجرة من جذورها، وتنظيف التربة، وتفكيك الذهنية. وهذا يجرنا حتماً إلى التعليم والثقافة والإعلام؛ لما لهذا المثلث من دور حاسم فى القضاء على العقول المغلقة التى تعد البيئة الخصبة لصناعة الإرهاب، فالتكفير والتفجير والذبح لا يكفى فيه الإدانة النمطية بل لا بد من صناعة عقول مفتوحة على الإنسانية فى ضوء العودة إلى المنابع الصافية؛ القرآن والسنة الصحيحة.
إن المعركة ليست فقط مع حاملى السلاح، بل هى معركة مع العقول المغلقة، وهذه العقول تمت صناعتها على أعيننا ليس فى الزوايا ومجالس العلم المزيفة فقط، ولكن فى المناهج التعليمية التى تنتج «ماكينات» للحفظ لا عقولاً تفكر تفكيراً نقدياً! وهذه الماكينات تتغذى على منظومة ثقافية هشة، وإعلام يكرس العنف فى الحوار، وفن يعيد إنتاج أسوأ ما فى حياتنا بحجة أن الفن مرآة للواقع!
ولا مفر من أن تتجاوز هذه المواجهة المبادرة الفردية لدولتنا المصرية الصامدة التى تتحمل عبء المواجهة وحدها، إلى التعاون المشترك العربى العربى، والعربى الدولى.
وهنا تتجلى أهمية التنسيق والتحاور الأمنى والثقافى والعلمى بين مصر والدول الأخرى فى إطار السياق الثقافى الراهن، وذلك من خلال جهود منظمة بين المؤسسات المختلفة، وأن تتسع هذه الجهود لتشمل تفعيل المنظومة الثقافية والإعلامية فى مواجهة الإرهاب كونها مؤثراً أساسياً فى فكر وحياة الشعوب، من خلال خطة شاملة للثقافة العربية، وحوار ثقافى عربى عربى والتقريب والتكامل بين الثقافات الوطنية العربية.
والمسألة هنا لا تتعلق فقط بالنوايا الطيبة، بل لا بد من رؤية منهجية تحكم العمل وخطط تنفيذية زمنية ذات أولويات محددة، وتوزيع مهام، وإسناد مسئوليات من أجل إنجاز أجندة متفق عليها لتجريف المنابع الثقافية الحاضنة للعقول المغلقة المنتجة للإرهاب، وتجديد فهم المسلمين للدين، عن طريق ثورة فى التعليم والإعلام والثقافة، حتى تحل الرؤية العلمية للدين والعالم محل الرؤية الإرهابية الجامدة القائمة على النقل والحفظ والاتباع الأعمى للذين وضعوا أنفسهم وسطاء بين الإنسان والله، وبين المسلم والقرآن، وبين الأمة ورسولها الكريم.
ولا ينحصر الهدف فقط فى تغيير الأفكار، بل لا بد أن يطال تغيير «ماكينة» التفكير عند الشعوب، كما أن التغيير لا ينحصر فقط على مستوى المدارس والجامعات، وإنما من الضرورى أن يشمل تغيير طرق تفكير الناس العادية فى الحياة اليومية وفى العمل والمجتمع والسياسة، ومن ثم يجب فض الانفصام بين العلم الذى يُدرس فى الكتب وطرق تفكير رجل الشارع والمشتغل بالدين أو الإعلام، أو غيره من منابر الرأى والتعليم والثقافة.
إنها مهمة بالغة الصعوبة، لكنها ليست مستحيلة!