نعانى فى مصر من سوء استخدام كلمة «الشفافية» التى فقدت معناها حتى وُصفت بأنها «تهدف إلى التعمية والتستر والتغطية والتمويه والتضليل وإبعاد الناس عن الفهم والرؤية، يستعملها السياسيون والموظفون العموميون والمديرون ورجال الأحزاب والإعلام وكثير ممن يتصدون للحياة العامة، بل ويستعملها الرؤساء أيضاً..».
وكثيرة هى المواقف فى المشهد السياسى المصرى التى تكون فيها «الشفافية هى الفريضة الغائبة» وإن ادعى المسئولون العكس وهم يتبارون فى تأكيد إيمانهم بها! فقد تم تمرير تعديل قانون السلطة القضائية بسرعة البرق ودون الأخذ فى الاعتبار آراء الهيئات القضائية المعنية، التى أكد الدستور فى المادة 185، «أن تقوم كل جهة، أو هيئة قضائية على شئونها ويؤخذ رأيها فى مشروعات القوانين المنظمة لشئونها».
وقد قيل فى معرض الدفاع عن قيام مجلس النواب بتعديل ذلك القانون دونما احتياج كلام كثير حول احترام المجلس التام لمبدأ الفصل بين السلطات وأنه يمارس اختصاصاته وصلاحياته الدستورية، وأيضاً قيل الكثير عن احترام المجلس للسلطة القضائية والمحافظة على استقلالها، وأنه يلتزم بما أوجبه الدستور من أخذ رأى مجلس القضاء الأعلى أو المجالس أو الهيئات الأخرى بحسب الأحوال إعمالاً للمادة 185 من الدستور، وبرر أحد النواب فى تصريح لجريدة اليوم السابع، أن مشروع القانون الذى تم إقراره من جانب البرلمان يرسخ لمبدأ الأكفأ وليس الأقدم، قائلاً: «ليس بالضرورة أن يكون الأقدم هو الأجدر على رئاسة أىٍ من الهيئات القضائية».
وفى جميع الأحوال، لم يتم الإفصاح عن الأسباب المتداولة فى مواقع التواصل الاجتماعى، التى دعت المجلس «الموقر» لتعديل القانون وعدم الاستجابة إلى رفض الهيئات القضائية المعنية ورفض مجلس الدولة!!!
وثمة مواقف مشابهة تتسم بغياب الشفافية، منها موضوع مطار النزهة الذى تم تجديده بتكلفة بلغت 300 مليون جنيه وقيل 400 مليون كما ذكرت بعض وسائل الإعلام، ثم تقرر الاستغناء عنه وعدم تشغيله، ولم يصدر أى بيان يوضح مشكلة المطار وكيف لم تكتشف كل الجهات المسئولة عدم صلاحيته قبل أو أثناء عمليات التجديد! ولم يبادر مجلس النواب «الموقر» إلى سؤال أو استجواب رئيس الحكومة أو وزير الطيران أو أى مسئول تنفيذى عن اتخاذ قرار التجديد وإنفاق ملايين الجنيهات دون طائل! ولم يتطرق مسئول واحد لموضوع المطار سوى تصريح الرئيس السيسى فى مؤتمر الشباب بالإسماعيلية، حين قال: «لن نستطيع استخدام هذا المطار لأسباب كثيرة، أرجو أن تعفونى من ذكرها»!!! وبنفس الدرجة من غياب الشفافية، ظل المصريون يتابعون الأخبار الإيجابية عن مشروع استصلاح وزراعة المليون ونصف المليون فدان، وشاهدوا الرئيس السيسى فى الاحتفال بحصد محصول القمح من مساحة تقارب العشرة آلاف فدان فى الفرافرة فى أبريل من العام الماضى، ثم إذا بهم يعلمون للمرة الأولى أن المشروع متعثر بسبب الخلافات بين وزارات الدولة المعنية، فقد أشار الرئيس، فى مؤتمر الإسماعيلية، إلى تأخر تحقيق إنجاز فى مشروع المليون ونصف مليون فدان، مشيراً إلى أن وزارتى الزراعة والرى ما زالتا تترددان فى تحديد مساحات الأرض وطريقة ريها منذ عام ونصف، قائلاً: «الخلل موجود فى كافة مؤسساتنا»، وأكد أنه يصارح المصريين بالحقيقة حتى يستطيعوا الصبر والتحمل والمشاركة فى بناء الدولة»، وكان قرار إقالة د. أحمد درويش، رئيس الهيئة الاقتصادية لتنمية محور قناة السويس، مفاجئاً بعد حديث الرئيس للشباب فى الإسماعيلية عن أهمية ذلك المشروع! وبغض النظر عن دواعى الإقالة أو توقيتها، فقد غابت الشفافية كذلك، وأسهب الكُتاب فى محاولة كشف خفاياها دون توضيح رسمى أو تفسير لتحميل الفريق مميش أعباء رئاسة هيئة تنمية المحور، بالإضافة إلى رئاسته لهيئة قناة السويس! وعلى حين ينتظر المصريون اجتياز الأزمة الاقتصادية والتداعيات السلبية لقرار تحرير سعر الصرف وانهيار قيمة الجنيه المصرى وتوحش الأسعار، إذ هم يتابعون حديث الرئيس فى الإسماعيلية تتفاقم مشكلة الدين الإجمالى ويقرأون تقرير البنك المركزى الصادر فى أبريل الماضى عن ارتفاع نسبة الدين العام فى مصر (الخارجى والمحلى) إلى 131.7% من الناتج المحلى الإجمالى فى نهاية 2016، مقابل 101% فى نهاية 2015، وأن نسبة رصيد الدين الخارجى للبلاد ارتفعت إلى 37.6% من الناتج المحلى الإجمالى فى نهاية 2016، مقابل 13.6% فى نهاية 2015، وأن رصيد الدين الخارجى بكافة آجاله ارتفع بنحو 19.6 مليار دولار، بما يعادل نحو 41% وبلغ 67.3 مليار دولار فى نهاية 2016، مقابل 47.7 فى الفترة المناظرة من 2015.
كل تلك المعلومات المزعجة عن تفاقم مشكلة الدين العام التى أفاض الرئيس فى الحديث عنها فى مؤتمر الإسماعيلية، مع عدم نمو الصادرات كما كان يروج مؤيدو قرار تحرير سعر الصرف، فى ذات الوقت الذى بلغ فيه معدل التضخم 41% فى مارس الماضى، تجعل المصريين يشفقون على مصير مشروعات تحدث عنها الرئيس فى المؤتمر وتتكلف مليارات الجنيهات، منها مثلاً مشروع تربية المليون رأس ماشية الذى سيكلف الدولة 60 مليار جنيه، ومشروع إنشاء 100 ألف صوبة زراعية بتكلفة 100 مليار جنيه، ومشروع المزارع السمكية الثلاث بتكلفة 30 مليار جنيه، بمجموع 190 مليار جنيه، وذلك فضلاً عن مشروعات لم يعلن الرئيس عن تكلفتها، منها إنشاء نفق مواز لنفق الشهيد أحمد حمدى والانتهاء من تخطيط مشروع مدينة الإسكندرية الجديدة وعمل امتداد جديد على مساحة نحو 50 مليون متر حول مطار الإسكندرية، وإنشاء منطقة صناعية على مساحة 200 مليون متر مربع فى منطقة السخنة، والانتهاء من 180 ألف وحدة لسكان المناطق الخطيرة وغيرها من المشروعات المفروض إنجازها فى 30 يونيو 2018!!!
ويتساءل المصريون من أين يتم تمويل تلك المشروعات؟ إن الشفافية مطلوبة لتفعيل المشاركة المجتمعية الإيجابية حول تلك المشروعات والتوافق على ترتيب أولوياتها والتعاون فى تدبير تمويلها!
وأمثلة غياب الشفافية فى المحروسة كثيرة، منها عدم إعلان أى رد رسمى على حديث ولى ولى العهد السعودى عن «سعودية» صنافير وتيران، وأنه لا خلاف على ذلك بين المملكة ومصر، كذلك لا يوجد إعلام رسمى عما يجرى فى سد النهضة الإثيوبى وعن مدى تقدم الدراسات الهادفة إلى تحديد مخاطره على موارد مصر المائية! وبالمثل لا يوجد ما يشير إلى الاتفاق النهائى مع روسيا على إنشاء محطة الضبعة النووية، ناهيك عن تشغيلها وضمانات سلامة التشغيل واستمراره. كما دخلت العلاقات مع روسيا فى دائرة الضبابية ولم تعد أخبار استئناف الرحلات الجوية وعودة السائحين الروس موضوعاً لاهتمام كثير من المسئولين!
لقد أكدت ديباجة دستورنا أننا «نؤمن بالديمقراطية طريقاً ومستقبلاً وأسلوب حياة، ونؤكد على حق الشعب فى صنع مستقبله، هو وحده مصدر السلطات، الحرية والكرامة الإنسانية والعدالة الاجتماعية حق لكل مواطن، ولنا ولأجيالنا المقبلة السيادة فى وطن سيد».
من أجل هذا تكون «الشفافية» شرطاً ضرورياً لتمكين الديمقراطية فى مصر!!!