«قص الأثر».. مهنة ملاحقة «الإرهابيين» و«المهربين» فى عصر الـ«جى بى إس»
جانب من احباط إحدى عمليات تهريب الأسلحة فى بحر الرمال
مع كل عملية إرهابية فى منطقة صحراوية، يظهر على الساحة فوراً اسم «قصاص الأثر»، فالبحث عن الجناة فى الدروب الوعرة يستلزم خبرة طويلة لا تتوافر إلا لدى أبناء الصحارى، ما حدث فى عمليات مطاردة منفذى الهجوم على كمين الفرافرة بالوادى الجديد منذ 3 سنوات، ومؤخراً فى الهجومين على كمين سانت كاترين، وزائرى دير الأنبا صموئيل المعترف، على أطراف المنيا.
رغم الدخول إلى عصر الـ«جى بى إس»، والرصد بالأقمار الصناعية، فإن مهنة «قص الأثر» ما زالت تحظى بأهمية كبيرة لسكان المناطق الصحراوية الحدودية، سواء فى سيناء شرقاً أو الوادى الجديد غرباً، بالإضافة إلى أهميتها بالنسبة للأجهزة الأمنية، التى تستعين بقصاصى الأثر لتتبع المهربين والعناصر الإرهابية.
فايز المعبدى: تعلمت قص الأثر من «الأغنام».. و«الفضلات» تكشف لى عدد الأشخاص.. وتحديد المواصفات الجسمانية من خطوة «القدم».. والرياح أخطر أعداء القصاص
الشيخ عبدالحميد زيدان، 56 عاماً، أحد أشهر قصاصى الأثر فى قرية الدهوس التابعة لمركز الداخلة بالوادى الجديد، قال إن «قص الأثر واحدة من أكثر المهن صعوبة، ففى الغالب أعمل تحت ضغط عصبى من جانب أصحاب المفقودات، سواء كانت إنساناً أو حيواناً، لحرصهم على العثور عليه حياً، كما أننا لا نتخلّف أبداً عن نجدة الملهوف».
وأضاف: «غالباً ما يلجأ إلينا أصحاب المفقودات بسرعة، خوفاً من طمس معالم الأثر، خاصة إذا كان المكان منطقة رملية، فالأثر عندها قد يندثر خلال دقائق أو ساعات»، موضحاً: «تعلمت المهنة من والدى وأجدادى وأصحاب الخبرات الآخرين فى هذا المجال، حيث كنت أتابع تعليماتهم ومعلوماتهم بدقة حتى أشرب منهم الخبرات».
أول مرة يخرج فيها «زيدان» إلى الصحراء لقص الأثر، كانت بعد بلوغه سن الأربعين، حسبما يقول، لأن «الأمر شديد الخطورة»، مشيراً إلى أن «قص الأثر هو عملية فنية معقدة، فعن طريقها يمكن تحديد جهة المفقود، ووقت سيره فى الدرب، سواء كان ذلك ليلاً أو نهاراً، فالسير فى النهار يكون فى طريق محدد وسهل، وليس فى مناطق صعبة مثل المرتفعات أو على الصخور أو المدقات الجبلية، بينما يسير الإنسان بطريقة عشوائية ليلاً، فلا يمكنه تحديد الاتجاه، وفى أحيان كثيرة يسير فى طريق دائرى، يخرج منه ليعود إليه».
أما تحديد طبيعة المار فهو أمر سهل، حسب زيدان، موضحاً «من السهل تحديد طبيعة الأثر، وبيان إذا ما كان لإنسان أو حيوان، كما يمكن تحديد ما إذا كان رجلاً أو سيدة، وإذا كان يحمل أشياء أم لا، وإذا كان يسير بصحبة أحد أم منفرداً»، وأضاف: «شاركت كثيراً فى البحث عن مفقودين، آخرهم كان شاباً ضلَّ طريقه فى منطقة المفيض، جنوب مركز باريس، حتى وصلنا إلى جثته».
وأشار «زيدان» إلى أنه فى الغالب يخرج للبحث منفرداً، أو بصحبة أحد أقارب المفقود، بعدما يحدد وسيلة التنقل اللازمة له وفقاً لطبيعة المكان، فإذا كان المكان عبارة عن كثبان رملية يتحرك بجمل، وإذا كان مكاناً مفتوحاً يتحرك بسيارة دفع رباعى، وإذا كانت الأرض زراعية يتحرك على القدمين، ويؤكد أنه لا يتقاضى أجراً عند البحث عن إنسان مفقود، بينما يحصل على أجره كاملاً إذا كان المفقود حيواناً.
لا يستمر الأثر على الأرض لأكثر من 10 دقائق فى بعض الأحيان، حسبما يقول «زيدان»، خاصة إذا كان على «الرمال المتحركة»، بينما يظل فترة تصل إلى عام كامل إذا كان على «الرمال الحرشة»، لأنه يترك علامة محفورة فى الأرض، مشيراً إلى أن أكثر الحالات التى خرج للبحث عنها كانت لمعاقين ذهنياً، أو لكبار السن، أو الراغبين فى البحث عن كنوز الصحراء.
سنوات طويلة قضاها الحاج فايز المعبدى، 60 عاماً، فى قص الأثر داخل صحارى مدينة السلوم الحدودية بمرسى مطروح، ليصبح بعدها واحداً من أشهر قصاصى الأثر فى المحافظة، والأكثر علماً بدروب الصحراء الوعرة، فيما قال لـ«الوطن» إنه قضى حياته كلها فى رعى الأغنام وزراعة الشعير والقمح على مياه الأمطار، والتجول فى الوديان، ما منحه قدرة كبيرة على كشف أسرارها من أول نظرة، فيمكنه أن يعرف طبيعة ووجهة أى «قدم» أو «سيارة».
وأوضح: «معرفتى بقص الأثر جاءت من حياتى فى الرعى داخل الصحراء، فعلى مدار 30 عاماً أسرع بالأغنام، ما منحنى معرفة كبيرة بالطرق، فأنا أتركها فى المساء لترعى، ثم أعود لأبحث عنها من تتبع آثارها، وعندما تضيع الأغنام من أحد المواطنين فإنه يأتى لنا لنبحث عنها، ومن هنا ذاع صيتنا فى قص الأثر»، مضيفاً: «الصحراء تحتفظ بأثر أقدام أى شخص يمشى عليها، وكل أثر له اتجاه يحدد الوجهة الخاصة بصاحبها».
وعن الاختلاف بين تتبع أثر شخص وسيارة، قال: «أثر السيارات يختلف تماماً عن البشر، ويحتاج إلى خبرات مختلفة، فكل إطار يعطى معلومات ودلالات خاصة، ما يكشف عما إذا كانت السيارة خفيفة أم ثقيلة، محمّلة أم فارغة، بالإضافة إلى تحديد أبعادها، ووجهة انطلاقها، والاتجاه الذى سارت فيه، وهل هى دخلت الصحراء حالاً أم خارجة منها، فلو كنت أقص الأثر لسيارة دخلت المنطقة منذ دقائق، أحدد جهتها من معاينة الأتربة واتجاه الرياح».
وأشار إلى أن أكبر مؤثر فى قص الأثر هو العوامل الجوية، موضحاً: «لو كانت الأمطار قوية مثلاً، فإن الأثر قد لا يتضح تماماً، وعندها لا أتمكن من تتبعه، خاصة عندما تتحول الأمطار إلى سيول، لأنها تكتسح كل الآثار فى طريقها، كما أن المياه عندها تغمر الأرض تماماً، على العكس من الوضع لو كانت الأمطار خفيفة، فوقتها يظهر الأثر بشكل أوضح، ويكون ثابتاً أكثر». وأضاف: «عند دخولى الصحراء مع أول ضوء شمس، أعرف إذا ما كان هناك أشخاص أو أشياء مرت من هذا الطريق أم لا، وإذا تتبعت آثار أشخاص كانوا يعسكرون فى الصحراء، يمكننى أن أعرف عددهم، والأيام التى قضوها، وذلك من خلال فحص آثار الطعام وفضلاتهم، ومكان قضاء حاجتهم، وعدد من الشواهد الأخرى».
فى سيناء، يعتبر أبناء القبائل «قص الأثر» علماً وموهبة فطرية، فهو يكتسب بالوراثة أو التعليم أو مصاحبة أصحاب الخبرة، ويجب أن يمتلك قصاص الأثر عدداً من المواصفات، بينها الخبرة والذكاء ومصادقة الصحراء، حسبما يقول الحاج سليمان أبوعيد، أحد أبناء جنوب الشيخ زويد، الذى روى لـ«الوطن» عدداً من الحكايات المأثورة الخاصة بقص الأثر.
يقول «أبوعيد»: «توجه اثنان من سكان الشيخ زويد إلى أحد قصاصى الأثر ليحتكموا إليه فى خلاف بينهما سببه أكل ناقة أحدهما من شجر الآخر، وعندها قام قاص الأثر للمعاينة، فقال لهما دون أن يرى الناقة إنها عوراء، ما أذهلهما، وعندما سألاه كيف عرف، أجابهما بأنها كانت تأكل من جهة وتترك الأخرى، ما يدل على أنها بعين واحدة، عندها سلم كلاهما بما قاله، وانتهى الخلاف بينهما».
وأشار إلى أن أحد الأشخاص دعا قصاص أثر لتناول الطعام فى منزله، وبعد أن أكل الضيف دعا للمضيف بأن تتم ولادة زوجته على خير، ما أثار حيرة الرجل، وسأله كيف عرف أن زوجته على وشك الولادة، فقال له: «الفطير الذى أتيتنى به ناضج من جهة واحدة، ما يدل على أن السيدة لا تستطيع الوصول إليه لتقليبه بسبب كبر بطنها».
وأضاف: «قص الأثر هو حرفة يرثها الرجل عن أبيه أو جده، ويشترط أن يكون أميناً ودقيقاً، وليست له عداوات مع أحد، وأن يكون محايداً إلى أبعد الحدود، فالخبرات تعلمه كيف يميز أعمار الأشخاص من أثرهم وهوياتهم، ويعرف الغريب من صاحب البيت، لأن الأول له طريقة فى السير تختلف عن طريقة الثانى، ونفس الأمر بالنسبة للمسلح واللص والضيف والقادم والمغادر والمرأة والبنت».
الحاج إبراهيم، أحد سكان جنوب الشيخ زويد، قال: «الخبرة يجب أن يلازمها ذكاء حاد وسرعة بديهة، لذلك نادراً ما تجد لصاً يسرق فى دائرته، وإنما يمارس عمله بعيداً، لأن أثره أصبح معروفاً لدى القصاص فى منطقته»، أما الحاج أحمد أبوسليمان، أحد سكان البادية، فقال إن «البصمات التى تؤخذ فى الأقسام الجنائية عند استخراج الفيش والتشبيه هى التطور الطبيعى لقص الأثر، إلا أن الأخير يعطى النتيجة سريعاً»، مضيفاً: «الرياح هى العدو الأبرز لقصاصى الأثر».