قصص مخابراتية.. "جاسوس في القاهرة" لوقف صناعة الطائرات المصرية
الرئيس جمال عبدالناصر
يحكي محمود مراد، الكاتب الصحفي بجريدة الأهرام، الحرب الخفية التي قادتها إسرائيل لإخراج العلماء الألمان من مصر، من خلال كتاب "جاسوس في القاهرة"، الذي يحكي عمليات الموساد لوقف صناعة الطائرات والصواريخ المصرية.
وذكر الكاتب الصحفي أن خلال أكتوبر 1954 في عصر "مصر الثورة" أنتجت الصناعة الحربية المصرية أول طلقة ذخيرة ناجحة وفعالة بكل مقياس علمي وعسكري ومن ذلك الحين وعجلة الإنتاج الحربي بدأ تدور يتنوع عطاؤها، حتى وصلت بعد نحو عشر سنوات إلى إنتاج الصواريخ وإنتاج محرك الطائرة النفاثة، ففي عام 1964 أعلن الرئيس جمال عبدالناصر قدرة مصر على إنتاج طائرات حربية أطلق عليها "هـ ـ 200" بعد أن تم تطويرها فيما بعد، لتصبح نفاثة ومقاتلة وليس مجرد طائرة تدريب، ومنذ هذا التاريخ بدأت الدوائر السياسية والعسكرية تتجه نحو مصر باعتبارها أنتجت عملا فذا يعبر عن تطور مذهل لدولة نامية، وتخوفت القوى المعادية أن تضع القاهرة هذا الاختراع الجديد في خدمة أصدقائها وفي مقدمتها دول العالم الثالث ومن هنا تربصت هذه القوى بمصر.
بعد أسبوعين فقط من إعلان "ناصر" وتحديدا في 23 مارس 1964 وقف وزير الدفاع الهندي مستر شافان في البرلمان الهندي يقدم إلي ممثلي الشعب ميزانية وزارته ويعلن أن جزء منها مخصص للتعاون مع الجمهورية العربية المتحدة "مصر" في انتاج الطائرات المقاتلة الجديدة شريطة أن تنتج مصر المحرك النفاث المقاتل بينما تتولى الهند صناعة جسم الطائرة ووفقا للاتفاق سافر وفد مصري يرأسه العميد طيار عصام خليل، رئيس المخابرات الجوية آنذاك، وفي مايو من نفس العام تم تطوير المحرك وحمل التطوير اسم "هـ - أ – 200" وصنفت آنذاك أحدث طائرة مقاتلة في العالم ودخلت مصانع حلوان ضمن مصانع الطائرات الحربية، وتم ذلك من خلال الاستعانة ببعض الخبراء الألمان الذين جاءوا إلى مصر من أجل هذا الهدف.
وجود علماء ألمان إلى جانب الدعم الهندي تسبب في شهرة الاختراع المصري الجديد عالمياً، والذي لم يتقبله الغرب، وبدأت فرنسا ومن بعدها الولايات المتحدة الأمريكية يبعثون الكثير من الرسائل التحذيرية لمصر مفادها بأنه في حال استمرار مصر في مشروع الطائرات ستلجأ تلك الدول لدعم إسرائيل بالأسلحة وقنبلة ذريه قد تؤدي إلى هلاك الجمهورية العربية ومن يدعمها في مشروعها، إلا أن رفض مصر الالتفات إلى تلك التهديدات دفع الولايات المتحدة الأمريكية لعمل حصار اقتصادي على مصر ومنعت القمح لتجويع الشعب لإجبار جمال عبدالناصر على التخلي عن المشروع القومي.
في ذلك الوقت كانت القوى المعادية لمصر وتحديداً إسرائيل تحاول بشتى الطرق إيقاف المشروع، فلجأت إلى استخدام الطرود المليئة بالمتفجرات، لإرسال الرعب في نفوس البعثة الألمانية التي تعمل إلى جانب الخبراء المصريين في مجال تصنيع الطائرات، من خلال إرسال الطرود إلى مصانع حلوان، حيث يعمل الخبراء الألمان، إلا أن تلك الطرق لم تنال من عزيمة الألمان أو الخبراء المصريين، وظلت الجهات الأمنية تستلم الطرود وتبطل مفعولها في سرية تامة حتى لا يعرف العدو أنها دون جدوى، برغم انها أصابت الكثير من الأرواح البريئة، لكنها لم تصل إلى الخبراء المصريين أو البعثة الألمانية.
لم تكتفِ إسرائيل بمحاولة اغتيال العلماء الألمان داخل مصر، بل لجأت إلى محاولة اغتيال أحد الخبراء حينما ذهب إلى ألمانيا لزيارة أسرته ويدعى الدكتور هانز كلاينفختر، إلا أن القدر كان حليفه ولم تصبه طلقات النار وبعد محاولة الاغتيال الفاشلة أرسلت إليه إسرائيل طرد كتب فيه "إن من يأكل اليهود جزاؤه الموت".
محاولات الضغط على العلماء الألمان باتت مكشوفة للجميع، فلجأت إسرائيل لضغط على المسؤولين الألمان لإجبار العلماء على الخروج من مصر، إلا أن العلماء لم يستجيبوا لحكومتهم وتقدموا في بيان بأنهم ماضون في المشروع المصري.
فلجأت إسرائيل إلى خطتها الأخيرة والأخطر وهي استدعاء أحد جواسيسها في القاهرة، ولذلك كان على إسرائيل أن تفحص من لديها وأن تدقق قبل أن يقع اختيارها على "جوهان وولفجانج سيموند لوتز" وهو الاسم الذي وصل إلى ميناء الإسكندرية في 7 يناير 1961 حاملا جواز سفر مدون به مهنته مندوب خيول وجنسيته باعتباره مواطنا من ألمانيا الغربية، وبالفعل كان "لونز" مواطنا ألمانيا بحكم أن والده كان ألمانيا وبحكم مولده أيضا، لكنه في نفس الوقت كان يهوديا إسرائيليا بحكم جنسية الأم.
المخابرات المصرية استطاعت كشف هويته الجاسوس بعد وقوع عدة تفجيرات جميع الدلائل أكدت أنه كان وراءها بتدبير من إسرائيل، وبالفعل تم القبض عليه وتعاملت معه المحكمة آنذاك على أنه جاسوس ألماني يعمل لصالح إسرائيل، وهذا خفف الحكم عليه من الإعدام إلى المؤبد، وبعد سنوات تم الإفراج عنه بعد حرب 1967 ضمن تبادل الأسرى وعاد إلى تل أبيب وخرجت اعترافات وتصريحات وبعض الكتب التاريخية التي أكدت فيما بعد أنه جاسوس إسرائيلي.