فجأة، تصبح فارغاً من الأفكار، فتصرف النظر عن تعديل وإصلاح الكون متمنياً العيش ولو للحظات بين كومة تفاهات. الكل يجمع على أنها تفاهات، حتى أنت قبل مدى قريب كنت تستنكرها وتتهمها بالسطحيات، لكنك اليوم شخص آخر، شخص يصرخ ويدافع بعلو: من تجرأ على تصنيفها تحت بند التفاهات؟ من يملك لعبة التصنيفات؟
فجأة، تحلم سرا أن تعيش كل حالات اللامبالاة والانقطاع عن الرتابة، تحلم أن تكون بوهيمياً غارقاً فى لذة إلغاء الوقت. إذا تملكتك هذه الرغبة فتجرأ وانزل للميدان وأعلن ثورتك على نفسك، وابتسم للبقية من حولك المنهمكة فى السياسة، واسرح أنت كأن اختراع الساعة لم يصلك خبره،
ألم تسأل نفسك: ماذا كان يفعل الإنسان قبل اختراع الساعة؟ برأيى كان يملك كل الوقت.
لكن الحضارة تقول إن لديك مشكلة مع الزمن، لذا عليك أن تبذل الجهد لأنه مستحيل امتلاك الوقت. الحضارة حددت أن أنام ليلاً وأستيقظ نهاراً، وحددت أن ساعات العمل هى كذا وساعات النوم الصحية هى العدد كذا، وأن بداية اليوم هى الأنسب للتفكير وللدوام، وأن ساعات الأكل المنتظمة أفضل للجسم السليم، وأن... وأن... كلها قيود حضارية تلغيك وتعلن انتصار الوقت بالمبارزة، ثم جاؤوا بذلك المثل السقيم الذى تدارسناه: «الوقت كالسيف إن لم تقطعه قطعك».
وكنت أسمع ترديد المعلمين لهذه النظرية الرتيبة وأتخيل وقتاً يبارز إنساناً فيطعنه ويقطعه ويفتته ثم يتسلم شخصاً آخر ليقطعه بالسيف ويسيل دمه ويتركه ينازع ليتسلم ثالثا ويسير بالمدينة يطعن ويقتل ويخيف. وكنت أستنتج من تلك النظرية أن الوقت عدو للإنسان مثل الحيوانات المتوحشة. وطالما أنه عدو فلم لا نلغيه من حياتنا؟ لكنهم أجابوا وقتها بأن ملازمته خطرة لكنها ضرورة لضمان التفوق عليه.
واحد من أسباب انتصارك على الوقت هو التنظيم، قد يكون التنظيم أساساً للنجاح الكلاسيكى، لكنى لا أرى فى التنظيم أساساً جاداً للإبداع؛ إذ كيف يزورك الإبداع وأنت محاصر بالوقت من كل الجوانب، تسارع بإنجاز وظائفك اليومية كيلا يطغى جزء على حساب وقت مخصص لجزء آخر؟ بالمؤسسة تتجمع كل مداركك وأحاسيسك لصالح هدف واحد هو إنهاء العمل قبل انتهاء الدوام، ومع العائلة تتجمع المدارك والأحاسيس من أجل تنفيذ واجبات زوجية رسمتها الأعراف والعادات. فمتى تكون اللحظة التى يتوقف بها الكون ليعلن عن حالة اتصالك ودخولك فى الماورائيات؟ لحظة غيبوبتك وولادة ألم بشرى جديد؟ لن يأتى هذا وأنت تقاتل الوقت حاصراً فكرك بمعارك مع الزمن.
بالنسبة لى يبدو اليوم طويلاً، مزيد من الفوضى والعشوائية، كل تنظيم ينتهى حبيساً بدماغى. أحلم منذ سنوات أن أكون مثل كاتبة مثالية تنظم وقتها وتعلم متى تكتب ومتى تقرأ، فمن منا انتصر على الآخر؟ وهل بارزت الوقت مثلما يبارزه غيرى؟ وهل قطعنى الوقت وفتتنى إلى أوصال أم كنت أنا من قطعته بإلغائه بعض الأحيان من أيامى ودخولى فى العشوائيات؟
أعرف أنه كلام صعب التطبيق، فأنا ألتزم بالعمل وأواظب على أداء مهامى بطريقتى، لكنه ليس الخوف من الوقت إنما حبى للعمل هو دافعى للالتزام. وأعرف أن لقمة العيش والالتزام الأخلاقى يتطلبان من كل فرد مبارزة الوقت وجدولاً صارماً للأيام، لكن ماذا لو تجاوزنا هذه العقدة ولو مؤقتاً، أقله الآن فى الصيف؟ عيشوا شيئاً يسيراً من الفوضى واندهشوا للنتيجة، ولتنسوا العمل، انسوا كل واجب، وفكروا فى تقديم شىء جديد للإنسانية، ستكتشفوا عندها أن بداخلكم طاقات مخيفة يقتلها حصار الوقت.
اشطبوا عبارة (الفوضى دمار) وارسموا (فوضى خلاقة)، لكن على مزاجكم، المهم ألا تثوروا من جديد على أى نظام قبل أن تعيشوا بوهيمية وتكتشفوا أن الثورة الحقيقية لم تتحقق أبداً.
الثورة على النفس، الثورة على كل حصار عقائدى وفكرى ومجتمعى. جربوا البدايات المختلفة، لماذا تقبلون ببدايات سياسية جديدة وترفضوا الانقلاب على أنفسكم؟