«سوهاج».. قاطنو 20 جزيرة متمسكون بالأرض رغم الفقر والمرض.. وحياة بلا مدارس أو مستشفيات
أهالى جزر سوهاج.. بشر تعيش خارج الزمن وحكومة تبحث عن معيشة كريمة لهم
سارت على الطريق الترابى الموازى لنهر النيل، تنثنى حين ينثنى وتعتدل حين يعتدل، اتجهت صبرنة على، 28 عاماً، صوب المركب القابع فوق سطح الماء، أسفل سور كورنيش النيل الشرقى بمدينة المنشاة جنوب سوهاج، هبطت فى الطريق المنحدر ممسكة بيدها حقيبة زاهية الألوان ملأتها بحزم جرجير وكيس فول وأرغفة خبز، وعندما نادى عليها المراكبى بصوت جهور: «همّى المشية شوية»، ردت عليه بصوت لا يكاد يسمعه أحد: «حاضر يا عم بخيت».
صعدت «صبرنة»، بجسدها النحيل الذى يغطيه رداء أسود إلى المركب وانزوت فى ركن منه تنظر إلى النهر وجزيرتها المسماة بالجزيرة «المستجدة» وسط النيل، وشردت ببصرها فى الماء، فقطع المراكبى بصوته المرتفع حبل أفكارها متسائلاً: «اتأخرتى ليه فى الغسيل؟» صمتت قليلاً وكأنها لا تريد الحديث معه وتحدثت بصعوبة بالغة، قائلة: «الدكاترة فى مستشفى المنشاة ماكانوش عايزين يغسلولى، طلبوا منى أروح أغسل فى سوهاج وبعد ما أترجيتهم غسلولى».
«صبرنة» تروى مأساة إصابتها بفشل كلوى.. والأهالى يطالبون الحكومة بحل أزمة تلوث المياه.. وتوفير فرص عمل وربط الجزر باليابسة
«صبرنة» تحدثت لـ«الوطن» بصوت يملؤه الأسى والحزن، موضحة أنها ولدت فى الجزيرة المستجدة الواقعة وسط نهر النيل، وتوفى والدها ووالدتها منذ نحو 10 سنوات، بسبب مشاكل فى الكلى، وتعيش الآن فى المنزل وحدها بعد أن ترك شقيقاها المنزل وتزوجا فى الجزيرة، وأضافت أنها أصيبت بالفشل الكلوى منذ 4 سنوات وكانت تغسل الكلى مرتين أسبوعياً، ومنذ فترة تغسل 3 مرات فى الأسبوع، مشيرة إلى أن سبب إصابتها بهذا المرض هو عدم توافر مياه نظيفة بالجزيرة والاعتماد على الطلمبات الحبشية.
وأوضحت أن سكان الجزيرة لديهم بيارات صرف صحى حفروها داخل منازلهم أو فى أرضهم الزراعية، مؤكدة أنها تعلم جيداً أن سبب إصابتها بالفشل الكلوى هو بيارات المياه، لأن مياه الصرف تتسرب إلى الطلمبات الحبشية وكذلك تختلط بمياه نهر النيل، مؤكدة أن عدداً كبيراً من سكان الجزيرة مصابون بالفشل الكلوى، لكنهم لا يتصورون أنهم يمكن أن يعيشوا خارج الجزيرة رغم الفقر والمرض.
مأساة «صبرنة» تتزامن مع حملة أجهزة الدولة لاسترداد أراضى الدولة وإزالة الإشغالات ووضع اليد، التى ستمتد إلى الجزر النيلية على مستوى الجمهورية لإخلائها، حيث يوجد فى سوهاج نحو 20 جزيرة فى نهر النيل، منها 5 جزر مأهولة بالسكان هى: الشورانية فى المراغة، والخزندارية فى طهطا، والجزيرة المستجدة فى المنشاة، وجزيرة البوحة فى مركز ساقلتة، وأولاد يحيى فى مركز دار السلام.
محافظ سوهاج: الجزر كلها مربوطة بعبَّارات نهرية للتيسير على الأهالى فى التنقل ونتواصل معهم باستمرار لتحقيق مطالبهم
وتعتبر جزيرة الشورانية التابعة لمجلس قروى شندويل من أشهر الجزر فى نيل سوهاج، حيث يبلغ عدد سكانها وفق إحصائيات رسمية 17 ألفاً و897 نسمة، ومساحتها 1884 فداناً، منها 1235 فداناً مزورعة، ويوجد بها مكتب بريد ووحدة صحية ومركز شباب، و29 مسجداً، و3 كنائس، و3 مستودعات بوتاجاز، و2 مدرسة إعدادى، ومعهد أزهرى ويخدم الجزيرة 3 عبارات نهرية، أما الجزيرة المستجدة فى دائرة مركز المنشاة فتبلغ مساحتها نحو 500 فدان وعدد سكانها نحو 8 آلاف نسمة، وفق إحصائيات العام الماضى، ولا توجد بها مدارس ووسيلة المواصلات بالأوتوبيس النهرى.
أما أقل الجزر من حيث المساحة والسكان، فهى جزيرة أولاد يحيى بمركز دار السلام، التى تبلغ مساحتها نحو 40 كيلومتراً وعدد سكانها نحو 4694 نسمة، ولا توجد بها مياه شرب نقية أو مدارس أو مستشفيات.
ويقول بخيت عبداللاه، 54 عاماً، صاحب المركب الذى ينقل الأهالى إلى الجزيرة المستجدة وأحد سكانها، إنه يعمل فى مهنته منذ 25 عاماً، موضحاً أن الأهالى يعيشون حياة قاسية فى الجزيرة لعدم توافر مياه الشرب، موضحاً أن أهالى الجزيرة منهم من تملك الأرض التى يزرعها بعد أن تم شراؤها من الدولة، ومنهم من يستأجرها بمقابل مادى يدفع سنوياً للدولة، مؤكداً أن الحياة قاسية، خاصة أن الجزيرة لا توجد بها مدارس أو وحدات صحية، ورغم ذلك فإن جميع السكان غير مستعدين لمغادرة المكان الذى تربوا فيه وورثوه عن أجدادهم، مطالباً الدولة بربط الجزر باليابسة وإيجاد فرص عمل للشباب وحل مشاكل المياه ويمكن أن يتم تنميتها بإقامة فنادق سياحية بداخلها.
ويقول ناصر عبداللطيف، أحد سكان الجزيرة المستجدة، إن جميع السكان يحفرون بيارات صرف صحى ويتم تصريف المياه التى بداخلها إلى نهر النيل، موضحاً أن ذلك يعد من أخطر مصادر التلوث، مشيراً إلى أن سكان الجزيرة لا يجدون مفراً من ذلك وعلى الدولة أن تجد حلولاً لمشاكلهم، مؤكداً أن السكان يرتبطون بأرضهم والمكان الذى تربوا فيه وهذه طبيعة أهل الصعيد، ولا يتمكنون من مفارقتها إلا لظروف قهرية، وهم راضون بحياتهم رغم بشاعتها ويعتمدون فى مصادر دخلهم على الزراعة وصيد السمك.
ويشير محمد عوض، من سكان جزيرة الشورانية بمركز المراغة، إلى أن عدد سكان الجزيرة يتخطى 25 ألف نسمة ويحلم الأهالى بإنشاء كوبرى يربط مدينة المراغة بجزيرتهم، حتى تقل معاناتهم فى التنقل بواسطة العبارات النهرية، موضحاً أن الأهالى يعيشون فى عذاب لانعزالهم عن العالم، لأنه عقب الخامسة مساء تتوقف العبارات عن العمل ولا توجد وسيلة مواصلات سوى قوارب الصيد التى تسببت فى غرق كثير من الأهالى، ورغم ذلك تأقلم الجميع على العيش فى الجزيرة ولا يطيقون العيش بعيداً عنها.
وأوضح الدكتور أيمن عبدالمنعم، محافظ سوهاج، أنه يتواصل مع الأهالى المقيمين داخل الجزر ويعمل دائماً على حل مشاكلهم، مشيراً إلى أن جميع الجزر مربوطة بعبارات نهرية للتيسير على الأهالى فى التنقل، موضحاً أنه تم تشغيل العبارة «سوهاج 1» للعمل بين طهطا وجزيرة الخزندارية، وذلك كدعم لتيسير الحركة والتنقل بين المركز والجزيرة، ورفع المعاناة عن أهالى الجزيرة، حيث تم نقل العبارة الجديدة من مدينة جرجا عقب افتتاح رئيس الجمهورية لمحور كوبرى جرجا - دار السلام.
وأضاف المحافظ أن العبارة الجديدة (سوهاج1) تتسع لـ15 سيارة وعدد كبير من الأفراد، وتعمل على نقلهم من مركز طهطا إلى جزيرة الخزندارية والعكس، مشيراً إلى وجود عبارتين أخريين وذلك لسرعة التنقل وعدم الانتظار لفترة طويلة.