فى المقال السابق تناولنا ما أمكن قوله فى ما يخص المجال الحيوى لتنفيذ العملية الإرهابية، وطرحنا بعض التساؤلات التى تخص قبائل وأهالى المناطق المتاخمة للهجوم، وهو إطلالة على مشهد «النشاط القبلى»، وأين تقف مواقع انحيازاته وإلى أى مسافة تصل تقاطعات التناقض والتعاون، ما بينه وبين عناصر التنظيم الإرهابى «أنصار بيت المقدس» المتلون قاعدياً وداعشياً ومحلياً أيضاً. وتظل الأسئلة مفتوحة، طالما لم يتقدم أحد للإجابة، حيث يتخبّط الرأى العام خارج سيناء فى انتظارها؛ ما بين اتهام شامل للجميع هناك بالمساعدة والعمل لصالح استمرار الإرهاب المسلح، وهذا تقدير فادح لا يمس الحقيقة. وبين منصرف الذهن عن المعركة الشرسة، لافتقاره إلى الإلمام بالبيئة المعلوماتية الغائبة، وهذا قصور فى المشهد، آن أوان تداركه سريعاً.
المعلومات الشحيحة التى خرجت عن الهجوم الإرهابى، أشار معظمها إلى واقعة تسلل تمت لنقل العناصر الإرهابية وتجهيزاتهم إلى داخل سيناء، والإشارة ذاتها كانت تُحدد وجهة القدوم بالجانب الآخر فى قطاع غزة. والقطاع لا يدخل بتلك القوة على خط تنفيذ عمليات بهذا المستوى، إلا بتكليفات مباشرة ومحدّدة بتفاصيلها حتى يمكن السماح بعبور هذا الكم البشرى والتقنى. فعادة دعم القطاع للنشاط الإرهابى فى سيناء، أنه كان يتم بصورة غير مباشرة وخلف الكثير من السواتر المموهة. فى تواريخ سابقة ومحطات بعينها ربما ظهر مثل ما كان فى الهجوم الأخير، وعادة ما تكون هناك ظلال سياسية تقبع فى خلفية تدخلات ودعم «نوعى» مثل المشار إليه.
بالتفتيش فى تلك الظلال هذه المرة، لا يوجد أبرز من الموقف المصرى فى إعلان مقاطعة قطر واتهامها صراحة بدعم الإرهاب، وبدء خطوات التضييق عليها وملاحقتها إقليمياً ودولياً مع شركاء مصر فى هذا القرار. امتداد تلك المعادلة يضع قطر فى محل اتهام منطقى بتحريك أذرعها الإرهابية للرد على هذا الموقف السياسى الكاشف، الذى وضعها فى موقع عزلة ضاغطة، ولن تكون الرغبة القطرية بعيدة عن محاولة صناعة فاتورة باهظة تصدرها إلى الطرف الآخر. وعبر الأذرع التى هى بالأساس متهمة بدعمها يمكنها الوصول إلى مشهد مثل ما تم بـ«هجوم رفح» الإرهابى، الذى استتبعته مجموعة هجمات أخرى «متوقعة»، بأذرع أخرى، لكنها مكلفة بصياغة المشهد ذاته ومكون إضافى لتلك الفاتورة. وقطر فعلياً تملك مفاتيح استخباراتية ومالية بقطاع غزة، تقدر حتى الآن بأنها تفوق أى مستجدات متبادلة ما بين قيادات حماس والسلطات المصرية، فالأمر ليس وليد اليوم، بل تم إنفاق الوقت والأموال لضمان جاهزيته عند الطلب، وقد جاءت المحطة التى حان فيها أوان سداد بعض المواقف لصالح «حلف الإرهاب» القطرى.
ضباط الاستخبارات التركية الموجودون بقطاع غزة منذ عام 2010م، لم يغادروها، والسفير القطرى محمد العمادى، رئيس اللجنة القطرية لإعمار غزة، هم الشخصيات التى بنت منذ هذا التاريخ نفوذاً هائلاً داخل القطاع، وصل إلى حد انتزاع القرار الحمساوى بالكامل تقريباً، ومعه تم إعادة تشكيل منظومة ما كان يُسمى سابقاً بـ«المقاومة الفلسطينية» على المقاس الإسرائيلى، وضبطت على تردد العمل لخدمة المصالح التركية - القطرية بالمنطقة. لذلك جاء على سبيل المثال خروج قيادات مكتبهم السياسى المهين من سوريا، عقب خذلانهم المفاجئ للرئيس السورى بعد سنوات من احتضانهم ودعم دمشق غير المحدود لهم، تم التضحية بذلك فى لحظات لم تتجاوز دقائق بعد لقاء بشار الأسد وخالد مشعل، الذى سبقه قرار تركى - قطرى بمغادرة حماس لسوريا فى فصول مأساتها الأولى، وحظر تورط عناصر حماس وتشكيلاتها بالمخيمات هناك فى تقديم أى نوع من الخدمات لنظام «بشار». فقد كانت المحرقة السورية تتجهّز حينها وتركيا وقطر قد اتخذتا أماكنهما فى صدارة الفاعلين الرئيسيين.
العالم بتفاصيل وبواطن المشهد السابق، لن يصيبه اندهاش أو ارتباك من أى نوع وهو يتابع قراراً مماثلاً اتخذ من كليهما أيضاً، تمثل فى قيام قطاع غزة بالدعم والإشراف على النشاط المسلح الموجّه إلى سيناء، كاستنزاف لمكون «ثورة يونيو» وما أنتجته؛ فى الوقت الذى لم يضمر أحد لمصر حينها عداوة استراتيجية بأشد من تركيا وقطر صاحبى مشروع الإخوان و«الإسلام السياسى». وعبر تلك اللافتات ظلت تجوب التظاهرات شوارع غزة مؤيدة للإخوان المصريين وقادتهم تحت ضوء الشمس، وفى ظلمات سراديب وغرف الأنفاق السرية تحت أرض القطاع، كانت اجتماعات الإدارة والمتابعة الاستخبارية تتم ما بين تركيا وقطر وقيادات كتائب القسام. ظل هذا المشهد يُدار بتلك الآلية طوال سنوات 2013 و2014 و2015، حتى بدأ الجيش المصرى يكسر إمكانات وأذرع الدعم الهائل الذى تم تقديمه للتنظيم المسلح فى سيناء، وبدأ حصاد ما يمكن وصفه بانتصارات تشكلت ملامحها على الأرض، ودفع فيها الوطن فاتورة دماء غالية من شهدائنا ومصابينا ووجع لم يندمل بعد فى نفوس الكثيرين.
ونحن فى منتصف عام 2017، ونتحدث عن عملية كبيرة بحجم «هجوم رفح» الإرهابى، نجدنا أمام عدة أجنحة داخل القطاع لن يخرج التورط عن أحدها؛ منها الجناح الأكثر اقتراباً والتصاقاً بالمشروع الإخوانى، وهو ما زال يضمر كراهية عميقة لمصر تؤهله لتقديم خدمات فورية لقطر، بغض النظر عن أى تداعيات محتملة، منها ضرب أى تقارب أو ترميم للعلاقات ما بين حماس والقاهرة وهو هدف ثمين فى حد ذاته. وهناك أيضاً الجناح الإيرانى بالقطاع وهم الأكثر تشدداً؛ ويحملون قلقاً مماثلاً للصياغات الجديدة ما بين قادة حماس الجدد والمسئولين المصريين، ويمتلك هذا الجناح الجاهزية، فضلاً عن الدوافع التى قد تؤهله للانخراط فى عملية ستلقى بظلالها ليس فقط على التقارب بين جانبى الشريط الحدودى، بل ستمتد إلى ضرب التقاربات الإقليمية المتشكلة حديثاً، وهذا هدف إيرانى خالص يصطف كما هو ظاهر مع قطر وتركيا، بالصورة التى تماثل الواقع اليوم على ضفاف الخليج بالدوحة فى ما بعد المقاطعة العربية.