الملك فاروق تنبأ بـ"الجمهورية" قبل "23 يوليو":"الزمن ده مابقاش للملوك"
الملك فاروق
كان يعلم أن هناك لغطًا حول بعض تصرفاته، وحول سلوكه الشخصي وارتياده المجتمعات العامة ودور اللهو والأندية الليلية، ولكنه كان يحاول دائما أن يعزو هذا اللغط إلى الدعاية الشيوعية وإلى استياء بعض العناصر الرجعية التي "لا تريد أن تعيش في القرن العشرين"، ولم يشأ أن يرى في تزايد اللغط نذيرا بوجوب تدارك الموقف قبل استفحال الخطب وفوات الأوان، ولكنه تنبأ بزوال حكمه من قبل قيام ثورة 23 يوليو 1952، ذلك كان موقف الملك فاروق الذي سرده مستشاره الصحفي كريم ثابت في مذكراته التي حملت عنوان "عشر سنوات مع فاروق".
الغرور ختم على بصره، حسب تعبير "كريم"، إلا أن الغشاوة لم تسقط عن عينيه إلا في سنة 1948 عند إعلان طلاقه من "فريدة"، بعد أن أذهلته الظواهر التي تجلت له في تلك المناسبة، كان يعتقد أن منزلته أعظم من أن تتأثر بعطف جزئي تتمتع به فريدة، وأقوى من أن ينال منها استياء "الرجعيين" و"أصحاب العقول الضيقة" كما كان يقول.
الهتافات العدائية التي ارتفعت في جهات شتى وخصوصا في دور العلم نبأته بأن الشباب الذي ألقى اعتياده عليه لا يؤيده ولا ينتصر له، ومن ذلك الحين أدرك فاروق أن فكرة إقصائه عن العرش بدأت ترتسم في الجو، وأصبح يتحدث عن احتمال تخليه عن العرش كاحتمال محقق الوقوع وإنما قد يتأخر وقوعه بعض الوقت، حسب ما ذكره "ثابت".
لم يخف فاروق شعوره الجديد على المحيطين به بل لم يخف على بعض الذين كان لا يعرفهم سوى معرفة يسيرة وكان يتحدث عنه أحيانا في مقابلاته الرسمية، ويقول مستشاره الصحفي نه كاد لا ينقضي يومًا من غير أن يبلغني فيه أن لسانه جرى بما ينم على تشاؤمه بمصير عرشه، وشعوره بأنه مهدد بالانهيار في المستقبل القريب، ورأى أن مصارحة المحيطين به بالحقيقة قد يشحذ عزائم الحريصين على بقاء النظام الملكي فتتضافر جهودهم على مقاومة الدعايات المناوئة له، وحاول ثابت أن يُبيّن له خطأ نظريته.
لم يقو على كبح جماح نزواته، التي كان يعلن أنها أهم سبب في القضاء على عرشه "فقد كان فاروق الملك في صراع مع فاروق الرجل فصرع فاروق الرجل فاروق الملك في آخر الأمر"، وأخبر ثابت إن في اليوم الذي تقول فيه البلاد إنها "تعبت منه" لن يتردد في شد رحاله فيريحها ويستريح، وكان مؤمنت بأن "عهده قارب من نهايته" وأنه "آخر ملك سيحكم مصر" وأنه "سيقضي بقية حياته في المنفى أسوة بإسماعيل باشا".
وفي إحدى الليالي، التي اعترف بها بأن "الجمهورية" قادمة، كانت هيئة الوزارة مدعوة يومًا إلى الغداء على مائدته في قصر القبة وكانت المأدبة مأدبة رسمية لم يدع إليها مع الوزراء سوى كبار رجال القصر، وارتدى الملك وضيوفه "الردنجوت" عملا بالتقليد الذي كان متبعا في القصر في المناسبات الرسمية، واعتاد أن ينتهر فرصة المآدب ويحدِّث وزرائه في مختلف الشؤون.
استهل حديثه يومها، حسب سرد كريم ثابت، إنه قال عن سلام الدولة إن "هذا السلام يجب أن يسمى السلام الوطني لا السلام الملكي، لأنه سلام الدولة وليس سلام الملك"، واسترسل "إن مصر اليوم بلاد ملكية.. ولكنها قد تصبح غدًا بلادا جمهورية.. فمن الأفضل إذن من جميع الوجوه أن يسمى سلامها السلام الوطني لا السلام الملكي"، ثم التفت إلى الفريق عمر فتحي كبير الياوران وقال له: "تبقى يا عمر تعمل من بكرة الترتيبات اللازمة لإجراء هذا التغيير في اسم السلام"، وأخبر كريم أن ينشر في الصحف أنه غيّر السلام.
وبعد انقضاء الليلة، جلس كريم ثابت إليه ليفهم منه سبب قرار وقال له: "اسمع يا كريم.. البلد دي ماشية نحو الجمهورية بخطوات سريعة.. فإذا كانت الحالة دي عاجبة الحكومة فأهلا وسهلا.. أنا معنديش مانع.. أنا معنديش مانع أسيبها النهاردة بس يقولوا لي إنهم لقوا اللي يحكمها وأنا ألم عزالي وأرحل"، وأخبره "الزمن ده مابقاش زمن ملوك.. بكرة تشوف شوية شوية مش هيبقى فيه ملوك إلا في إنجلترا ويمكن في شوية بلدان تانية".
وعند محاولة إقناع كريم له بأن يُصلح ما أفسده وربما تكون مصر من البلاد التي تبقى فيها الملكية كان رد فاروق "أحب ما علىَّ.. ولكن أنا مش حاغيّر من طبيعتي.. فإن كان عاجبهم عاجبهم.. وإن كنت مش عاجبهم فما عليهم إلا أن يبحثوا عن اللي يعجبهم.. أنا بعمل اللي بأقدر عليه"، وكان أول ملك في التاريخ أمر بحذف كلمة "ملكي" من سلام الدولة الرسمي.