«الجار أولى بالشفعة» فقط فى «مكتب التموين»
طوابير المواطنين أمام أحد مكاتب التموين
دبدبات تخفت وتتعالى.. صيحات بدت فى الخلفية واضحة جلية، تتوقف لبرهة ولسان حالها لا يكف عن السؤال «هو إيه اللى بيحصل فوق؟»، تعقد العزم على الصعود، وقد طرحت مخاوفها جانباً «هيسخطوك يا قرد»، تلملم طرف عباءتها وهى تصعد درجات السلم المتهالك، نبضات قلبها المتسارعة توقفها بين الحين والآخر، السلم مكتظ عن آخره، بطابور لم يبد له نهاية، هى تستند بيد، وأوراقها وعباءتها بالأخرى، وعيناها معلقتان بنهاية الطريق.
تستعين بكل مخزون الصبر، إنه وقودها فى رحلة البحث عن الحق، حقها فى بطاقة التموين، الإرث الباقى لها، والسند الذى يعينها على الحياة هى ومن بقى معها من أبنائها «مش قاعدين يراعونى.. قاعدين معايا عشان ملهمش حتة وأهى لقمة تكفى 100»، تتبرع برواية قصتها لتؤنس وحدتها فى الطابور، فتصطدم بما هو أقسى وأصعب، تعاود الحمد والشكر والتصبير «إحنا أحسن من غيرنا»، وتكمل رحلة الصعود، بحثاً عن أول الطابور، حيث مكتب التموين، وحيث الهتاف الذى يرج قلبها الضعيف بين ضلوعها «محمد.. منى.. رجاء.. حسبى الله ونعم الوكيل».
طوابير لـ«الحسبنة» فى موظفى المكتب.. والتهديد بالتجريس على «الإنترنت»
لوهلة، فاجأها الخاطر، المكتب فى عمارة سكنية توشك على السقوط، هكذا تنبئ سلالمه وجدرانه، وهكذا يقول الجيران، ممن يؤرقهم الزحام الذى يدوم من السابعة صباحاً -قبل افتتاح المكتب- وحتى الثالثة عصراً، تخشى أن تضحى هى والغاضبون أمثالها جثثاً أسفل حطام المنزل حال تهدمه.. تتبدد المخاوف «ما احنا أموات بس عايشين»، تزاحم من أجل دور فى طابور السيدات، تتعلل بالسن والمرض، فيصرخ المحيطون بها «كلنا عيانين ومش قادرين نقف.. ومفيش موظف معبّرنا».. تشخص ببصرها خلف زجاج الشباك، فلا ترى موظفاً يستقبل أوراق المصطفين فى طوابير، تسند ظهرها إلى حائط وهى تسأل بصوت عال: «يعنى هنفضل على كده لحد إمتى؟»، فتأتيها الإجابة أقرب للهتاف «لحد ما يبان لنا صاحب».
«هنصوركم ونرفعه على النت».. تهديد حمله بعض المتراصين دون مجيب أمام شباك الاستقبال بمكتب تموين الدرب الأحمر، لم يلق سوى سخرية الموظفين، الذين لم يحركوا ساكناً تجاه التهديد، لم تلبث «بثينة» أن تنضم، ولو بصوت خافت لجموع المحتجين، بالهتاف تارة «كفاية حرام»، وبالحسبنة أخرى، قبل أن تمر إلى جوارها إحداهن، تفسح «منى» -موظفة المكتب- لها الطريق، وتستقبلها فى الداخل، فيعلو هتاف الغاضبين «كوسة.. كوسة»، الزائرة ما هى إلا جارة المكتب فى العمارة نفسها، جاءت لتسأل عن بطاقة شقيقها القاطن فى المنطقة، تمصمص شفتيها وهى تغادر غير مكترثة بالعيون التى كادت تأكلها، قائلة بصوت غير خفيض: «يعنى جيرانهم ومستحملين الغلب ده كله يوماتى وعايزينا نقف فى الطابور.. ده حتى عيب».
بين التحديث وتصحيح البيانات والسؤال عن البطاقة وحذف متوفين وإضافة مواليد تتراوح الأسئلة، لكن دون إجابات شافية، فى الثانية ظهراً وقبل إغلاق المكتب بساعة، قرر الموظفون الثلاثة إجابة السائلين، إجابات لم تخرج عن «اعملى حوالة بـ20 جنيه»، «اعمل محضر فى القسم»، «هاتلى صور شهادات ميلاد وبطايق المستفيدين وتعالى بعد 45 يوماً».. تقسم «بثينة» أنها سمعت الإجابات نفسها على مدار عامين، وقدمت كل ما يمكن تقديمه من أوراق، ورغم هذا لم تأتها البطاقة.. لا تفكر وهى تغادر موقعها فى شىء محدد، كلها أفكار تموج فى ذهنها، يشغلها فقط «كيف ينام محمد ومنى ورجاء ليلتهم بعد كل هذا الكم من الدعاء عليهم؟».