إحدى المُدُن الجديدة، عمارات باللون الرصاصى الكالح، بالتحديد الدور الثالث الذى يُفضّله أغلب المصريين دون سبب واضح، غُرفة مُلتصقة ببلكونة تزورها الشمس يوميًّا، شاب يملك بنيانًا فتيًّا وعضلات مفتولة، يستيقظ فى السابعة صباحًا دون ملابس على نصف جسده الأعلى، أحد أيام الحر القائظ ، يفتح النافذة، لا جديد يُذكر على أى صعيد، وكأنه يطمئن أن الكون لايزال مستمر والأرض لاتزال كُروية، نظرة عشوائية لا معنى لها، ينظر إلى الأرض الرملية صفراء كما هى، أعمدة الإنارة لم تزل مضيئة منذ الأمس كالمعتاد ولم تزل منذ عشرات السنين تنظر للأسفل فى استكانة، الشمس تضيء العالم، القمر سَلّم الورديّة ليستريح قليلاً من الأغانى السخيفة ونظرات المعجبين والفتيات التى تُشبهه ظُلماً وعدواناً، العمارات كما هى، صناديق القُمامة، السيّارات أسفل المنزل، سيارة ريجاتا بيضاء لجاره حسين، وأُخرى كيا سيراتو بنفس اللون الرصاصى الكالح للدكتور مصطفى عُكاشة وكأن العمارات المتجاورة أنجبت سيّارة كالحة مثلها ومثل صاحبها طبيب الأسنان السخيف.
اطمئن أن كل شيء فى موضعه، انتهى من نظراته البلهاء، ذهب إلى الحمّام وضع جسده الممشوق تحت الماء البارد، 3 دقائق بالتمام والكمال، جفف جسده، وصلى ركعتى الصبح أول وآخر ما يُصلى فى يومه، ارتدى البزة الرسميّة، سحب حقيبة يده ونزع هاتفه المحمول من الشاحن الذى يبيت فى حضنه كل يوم وليلة فى زواج كاثوليكى ليس فيه ثمة انفصال أو تراجع، أغلق باب الشقة، نزل إلى الشارع، ذهب إلى المحطة، ثلاث دقائق حضرت سيّارة البنك فى الثامنة إلا الثُلُث، أقلته إلى مقر عمله، إلى البنك، الثامنة إلا خمس دقائق كان أمام شبّاك رقم 5 أمام الجمهور، يسمع نفس الكلمات "عايز ادفع قسط \ عايز استعلم عن قُرعة الأراضى الجديدة \ عايز اعرف تقديم الشقق الجديدة إمتى \ عايز أفك الوديعة........
نفس الردود فى فلك محدود من الكلمات "اتفضل، تحت أمرك، أُؤمرينى، الشقة باسم مين، لازم صاحب العقار بنفسه، لازم صورة البطاقة، معاك اتنين جنيه وتاخد خمسة...................
خمس سنوات من العمل المتواصل فى البنك، نفس الوجوه، يحفظ العملاء كما يحفظ عنوان منزله، فى إحدى الأيام، دخلت سيدة فى الأربعين من عمرها يعرفها جيداً، تأتِى الثلاثاء من أول كل شهر لتدفع القسط الخاص بشقتها، يبتسم لها ويقوم بإدخال بياناتها التى يحفظها جيّداً
آمال محمد السيّد
مجاورة 70 مربع 11 شقة 5
يعطيها الوصل ويأخذ قيمة القسط ويمنحها باقى المائة جنيه: مبروك يا أستاذة آمال دا كان آخر قسط.
- بجد، مش مصدقة نفسى، فرحتين فى يوم واحد.. لم يلحق بقطار الاستفسار عن الفرحة الأولى حتى اقتربت منه ومنحته حضن قوى وهمست فى أُذنيه: أنا أتطلقت إمبارح!
هكذا دون مقدمات، وأخذت الوصل واختفت، وظل هو يتلفت حوله بوجه شديد الاحمرار، وكأنه يحلم
لكزه زميله الجالس بجواره فى شباك 6: قوم اغسل وشك بسرعة يا بن المحظوظة، اتحرك.........
باستثناء تلك الواقعة الغريبة، وباستثناء الفتاة السمراء الجميلة التى تأتِى مع والدتها وتظل تُحملق فيه وتنظر له فى عينيه، وتغادره بابتسامه حنونة تمنحه بعض السكينة والدفء، باستثناء ذلك لاشىء، لا جديد، السنوات تذهب، والملل يأكل الحياة كما يأكل الموج المراكب التى ترسو فى الموانىء ويبتليها بالصدأ.
نفس الوجوه نفس الأشياء، نفس الموسيقى التى يسمعها، نفس الحماقات، نفس الخطوات التى يمشيها، نفس المواعيد التى يغادر فيها البنك يومياً، الثانية بعد الظهر، الوحدة، السراب، أعمدة الإنارة، الثامنة صباحًا، الدش البارد، نفس المطاعم والأكلات السريعة، يوم الخميس، أصدقاءه، أدخنة الشيشة التى يبغضها، مبارايات الأهلى، الأهلى دائماً يفوز، أفلام الرعب التى لم تعد تحركه منذ سنوات، الموت، فلان مات، الله يرحمه، نفس البرود، نفس البشرة البيضاء التى لم تنجح الشمس فى اختراقها أو التأثير عليها أو صبغها بلون الحياة، يشعر أنه علبة بلوبيف أو سلامون منتهية الصلاحية على رف سوبر ماركت صاحبه عديم الضمير، الضمير، العذاب، الحس، مراكز الحس، التأثر والتأثير، البكاء، متى كانت آخر مرة تسللت دمعة على خده؟ لا يدرى، لا يعلم، هل التغيير يأتِ أم نذهب إليه؟
ما الفرق بين الحياة والموت وأعمدة الإنارة، الحروب، الأسفلت، طريق الواحات، الروايات.......
الإجابة لا شيء ولا شيء سوف يحدث غير التفكير، والملل والأكل والنوم والبنك والثامنة صباحا والثانية ظهرًا...........