فى أول رحلة لـ«571» بعد الحادث.. 12 ساعة من بورسعيد إلى الإسكندرية
ركاب يحملون أمتعتهم بعد مغادرة القطار فى إحدى المحطات
مع أول خيوط النهار، عند الساعة السابعة صباحاً، كان القطار رقم (571) يتهيأ للانطلاق من جديد، أمس الأول، فى أول رحلة له عقب حادث التصادم الأليم الذى وقع قبل يومين وأودى بحياة العشرات وأصاب نحو 130 راكباً. القطار يقف على رصيف رقم (1)، جراره الكبير يعمل ويحرق كميات من الوقود، بينما أصوات مراوحه و«تروسه» تأكل نفسها معلنة استعدادها لجر 9 عربات ستكتظ فى غضون ساعات قليلة بمئات الركاب الذين قُدّر لهم أن يعانوا محنتهم الخاصة مع «الداهية» (571) قطار بورسعيد- الإسكندرية.
«الوطن» كان لها مقعد فى عربة تتوسط القطار مع الركاب البسطاء الذين يقدرون فقط على 15 جنيهاً فما أقل ليستقلوا ذلك القطار المشئوم، ليأخذهم إلى الإسكندرية مروراً بالإسماعيلية والزقازيق وطنطا وميت غمر ودمنهور، كُل يعرف وجهته التى سينزل فيها وفق ميعاده. بمجرد الولوج إلى إحدى العربات الهادئة تلتقط عيناك آثار قمامة أسفل وأعلى المقاعد، ونوافذ ملطخة بـ«الطين»، ودورات مياه غير آدمية أو غير موجودة فى بعض العربات، فلم تصلح فى قطار مكون من 9 عربات سوى دورة مياه واحدة فقط، يلجأ إليها الركاب عند السيارتين المكيفتين الملاصقتين لجرار القطار.
«التوك توك» فى أبوحمص ينقل العالقين على شريط القطار.. والركاب يلجأون إلى المنازل المطلة على القضبان لشرب المياه.. و«عزيز»: سائقو القطارات مستهترون ويقفون لشراء سجائر
بصوت مرتفع تحدثت سيدة خمسينية عن حادث التصادم الأليم وإهمال المسئولين لأرواح البسطاء، عاقدة الربط بين ما تم تداوله خلال الأيام القليلة الماضية من مقطع «فيديو» متداول على «فيس بوك» لتعاطى ركاب قطار المخدرات، بالحادث الذى وقع وقتل حياة العشرات وجرح أضعافهم، يرد عليها فى المقاعد المقابلة لها أحد رفاقها بأن الخطأ ليس من سائق القطار 13 «القاهرة» لأنه لم يتلق إشارة بوقوف القطار 571 «بورسعيد»، لترد هدى عبدالعال، الموظفة بإحدى الإدارات التعليمية بالقنطرة غرب، بأن التقصير يأتى من المنظومة التى تدير سكك حديد مصر.
قبل أن يقطع القطار أولى ساعاته كان قد وصل إلى محطة القنطرة غرب، وتركت «عبدالعال» عربة القطار مترجلة مع بعض أقاربها لترك القطار، بينما يزداد التزاحم على القطار من الركاب المقبلين من محطة القنطرة غرب، إلا أن 8 مقاعد تم تخصيصها لرجال الشرطة، ونصبوا عليهم أحد أفراد الشرطة بزى ملكى، تقتصر مهمته على إبعاد الركاب عن المقاعد المخصصة لرجال الشرطة، ليتسبب فى حالة من الاحتقان بينه وأحد زملائه وبين عدد من الركاب أوشكت على التطور وإحداث مشاجرة بينهما وبين عدد من الركاب الذين اعترضوا على سوء طريقته فى تنبيه من يحاول الجلوس على مقاعدهم.
بحلول العاشرة والنصف تزداد درجة الحرارة ارتفاعاً باشتداد الشمس وازدياد التزاحم وظهور روائح كريهة لم يعرف أحد مصدرها ويبدأ الركاب فى التأفف وكُل ينفخ فى «نفيره». كان ضمن من يلعنون الأوضاع الاقتصادية السيدة سميرة محمد رضا 66، عاماً، هى إحدى السيدات السيناوية التى عاصرت الحرب، ولها من الذكريات نصيب فى معايشة التهجير الذى عاشه أبناء سيناء بعد العدوان الإسرائيلى، لكنها تسترجع لجيرانها من الركاب سيرة من حياتها فى معايشة الحرب ليس لإبراز فظاعة المعارك أو التهجير وفراق الأرض، ولكن كانت تتحدث عن رخص الأسعار وقتها وإمكانية المعيشة لأقل الفئات بل وحتى المهجّرين الذين كانوا يتقاضون 7 جنيهات شهرياً لكل أسرة، قد تكفيها جنيهان فقط فى شراء طعامهم، فما زال النصيب الأكبر فى حديث الركاب حتى تلك الساعة هو الغلاء رغم وقوع عشرات الضحايا والمصابين، قبل يومين، قائلة إن الظروف الاقتصادية لعدد كبير من الركاب تدفعهم لركوب هذه القطارات ذات الخدمة السيئة وجراراتها «المشوهة» بدلاً من السيارات الأجرة والأوتوبيسات المكيفة.
الرحلة تستغرق أكثر من ضعف مدتها والقطار يتوقف أكثر من 10 مرات.. والركاب يتجولون فى الزراعات بحثاً عن «توصيلة»
يتحدث إسلام على، 29 عاماً، بتأفف: «الأوتوبيس المكيف أجرته بتوصل لـ80 جنيه من بورسعيد لإسكندرية، إنما القطر 15 جنيه، والناس الغلابة مضطرة تركب القطر، لأن ميزانياتها ما تسمحش يصرفوا المبلغ ده فى توصيلة».. المهندس فى مشروع أنفاق الإسماعيلية اعتاد أن يركب القطار خلال أيام دراسته الجامعية من بلدته فى كفر الدوار إلى جامعة الزقازيق، بل وحتى بعد تخرجه وعمله فى مشروع أنفاق الإسماعيلية ليعانى الأمرّين بسبب رحلة القطار 571 التى تنهك جسده بزحامها الشديد وخدماتها السيئة.
أما «إسلام»، المهندس المدنى، فيعبر عن تعجبه من كثافة الحضور فى القطار بعد الحادث بيوم واحد، بعدما ظن أنه سيستقل قطاراً فارغاً من الركاب المذعورين من حادثة الإسكندرية، لكنه يقول: «كنت فاكر حالاقيه فاضى لقيته متكدس ناس، وشفتهم بيتزاحموا على أبواب القطر فى محطة الإسماعيلية قلت يا رب أعرف أركب»، ثم يخبط «كفاً على كف» ويتابع: «والله حرام، شوف الناس ظروفها المادية بتعمل إيه، برضو ركبوا القطر علشان يوفروا 30 أو 40 جنيه بالكتير، وبيتبهدلوا فى الحر ده»، ويعلق بسخرية: «وأنا عن نفسى جيت ركبت فى العربية اللى فى النص علشان لو قطر دخل فينا من ورا أو القطر بتاعنا دخل فى حد من قدام أبقى فى الأمان شوية».
عند الساعة الواحدة ظهراً يقف القطار فى طنطا لمدة تقارب نصف ساعة، كان من المفترض أن يكون فى هذا التوقيت فى محطة دمنهور، إلا أن القطار يبدأ فى التباطؤ ويواصل توقفه المتكرر بعد أن يصل محطة دمنهور عند الساعة الثالثة عصراً، ويبدأ الناس فى السباب ولعن المسئولين، بينما يقوم آخرون باللجوء إلى المنازل المطلة على شريط القطار لتزويدهم بمياه الشرب وملء قواريرهم، ثم ينزل عدد كبير من ركاب القطار فى إحدى مناطق الزراعات بعدما شاهدوا على مرمى بصرهم طريقاً أسفلتياً تسير عليه السيارات، فيما نزل البعض من القطار خوفاً من أن يأتى قطار آخر من الخلف ويصطدم به على طريقة حادثة الإسكندرية، ليقول راكب لآخر: «انزل يا عم نقعد تحت لحد ما القطر يتحرك، مش ناقصين قطر تانى ييجى يخبط فينا من ورا، البلد دى كلها مصايب» وتبعه عدد كبير من الركاب، وما إن فتحت الإشارة قام القطار بالتحرك تاركاً من نزلوا واتجهوا إلى الأراضى الزراعية بحثاً عن سيارة تقلهم إلى وجهتهم، بعد أن علموا من سائق القطار أن قطارات الوجه البحرى كلها تسير على خط واحد بسبب الحادث، وأن هناك تكدساً فى القطارات.
يسير قليلاً ثم يعاود الوقوف قبل «أبوحمص» ببضعة كيلومترات، وتبدأ الموجة الثانية من الركاب فى النزول والسير على الأقدام بين الأراضى الزراعية، كان القطار يقف على بعد نحو 200 متر فقط من أحد المزلقانات، وما إن شاهد سائقو الـ«توك توك» ركاباً ينزلون من القطار حتى هرعوا إليهم بجوار شريط القطار ونادوا: «موقف إسكندرية»، لنقل الركاب إلى أقرب موقف يقلهم إلى الإسكندرية، نزلت أعداد كبيرة من ركاب القطارات، بينما عجزت النساء المتقدمة فى العمر عن النزول من القطار لعدم وجود رصيف، وانتشر الذعر بينهن من أن يحل الليل فى هذه المنطقة النائية ومعهن أطفالهن ومتاعهن، لكن القطار يتحرك ويكرر الوقوف وسط حالة من القلق والخوف من حلول الليل فى أماكن نائية، وبدأ بعض الشباب بالقطار يهتفون فى مزاح: «افتحولنا السكة.. الحكومة فاشلة».
يعاود القطار التحرك، ليمر من أمام محطة خورشيد ببطء ليتكدس الركاب على نوافذ السيارات ويشاهدوا حطام القطارين المتصادمين، فى حالة من الذهول، حتى بدى القطار وكأنه دخل بيت «الرعب»، يأخذ ركابه فى رحلة شاقة استغرقت نصف يوم على الرغم من أن مدتها الرسمية 6 ساعات فقط، ويدخل محطة الإسكندرية بعد الساعة السابعة مساء، يحمل الركاب حقائبهم ويتزاحم من بقى فى القطار على الأبواب، ويقول أحدهم يائساً: «ضربوا لنا اليوم الله يجازيهم، المسئولين قالولنا شيلنا الحطام والحركة عادت كما هى، ووهمونا إن كل تمام، لكن أهو الفشل واضح زى عين الشمس، عليه العوض ومنه العوض».