فجأة.. انفجرت ماسورة الـ"سوشيال ميديا" في مصر. لم يكن الأمر هذه المرة يتعلق بقضية سياسية أو اقتصادية عويصة من نوعية هذه القضايا التي تثير لُعاب جيش الخبراء الاستراتيجيين والمحللين والمنظرين وبتوع الفتة الإلكترونية، لكنه تعلق بشيء مختلف تماماً استحق كل هذه الضجة والتفاعل والاهتمام بل والانقسام حوله بين رعاة الحرية والانفتاح والتنوير من جانب، وحماة الدين والفضيلة والمثل العليا والدنيا من جانب آخر.
أنت مع مين؟.. المايوه البكيني الذي ارتده الفنانة نيللي كريم، أم النقاب الذي غطى وجه الفنانة المعتزلة حلا شيحا؟!
تساؤل سخيف طرحه فريقان أسخف منه، وأخذ كل منهما في "رص" الأدلة والحجج والبراهين التي تثبت صحة موقفه. فريق "نيللي" دافع عن البكيني لأنه يرمز إلى الجمال والانطلاق والتحرر والحداثة وما بعد الحداثة وما بعد بعد الحداثة أيضاً، وعلى الناحية التانية فريق "حلا" دافع عن النقاب لأنه يرمز إلى العفة والشرف والتقوى والإيمان والزهد وما بعد الزهد وما بعد بعد الزهد. يا سيدي براحتك، لحد كدة ماشي الحال.
لكن!!.. وما أدراك ما بعد لكن!!
يا ليت الأمر توقف عند هذا الخط الساخن الذي أعلن فيه كل فريق عن موقفه، لكنه تجاوز إلى خط آخر أكثر سخونة، فأخذ الأول يتهم الثاني في عقله، والثاني يتهم الأول في دينه.. واشتعلت المباراة بعد دقائق قليلة من صافرة الحكم، وانطلقت "الهاشتاجات" و"التريندات" و"شماريخ الفيسبوك" التي أطلقها أولتراس "نيللي" وأولتراس "حلا" هنا وهناك.
يا الله.. ما هذا الجنون؟.. كيف وصلنا إلى هذا الحد من الغوغائية؟.. وكيف تحولت مدينة "العالم الافتراضي" الذكية، إلى مدينة للأغبياء والأدعياء والتافهون والحِشريون الذين يتلصصون على الحياة الخاصة للناس بلا أدنى شعور بالخجل أو الحياء؟
ثم السؤال الأهم: ما الذي يضير حضرته أو حضرتها من أن ترتدي "نيللي" مايوهاً أو تلبس "حلا" نقاباً؟
الحقيقة المؤسفة أنه لا شيء على الإطلاق، والحقيقة الأكثر أسفاً أن تلك المباراة لم تكن في تشجيع المايوه ولا في تأييد النقاب، وليس لها أي علاقة بتقدم وحداثة المجتمع أو تدينه وعفته.. الحكاية باختصار هي الفراغ القاتل، ليس فراغ الوقت، لكن فراغ العقل، وفراغ الجدوى، وفراغ القدرة على ممارسة أي عمل جماعي إيجابي مفيد، حتى لو كان هذا العمل مجرد مناقشة مجتمعية عدمية زيها زي علبة تونة منتهية الصلاحية تنتظرها أقرب صفيحة زبالة، حتى هذا الأمر فشلوا في القيام به على نحو جيد.
ولم تكن مباراة "نيللي" و"حلا" الأولى من نوعها، سبقتها مباريات أخرى لا تقل عنها تفاهة تطوع فيها أعضاء رابطة المجاذيب الإلكترونية بالهتاف والتشجيع والخناق وقلة الأدب المتبادلة. وهذه المباريات الجدلية ليست إلا شهادة معتمدة على حالة الهوس الخارق للطبيعة والعلم والمنطق التي انتشرت على صفحات التواصل الاجتماعي ووصلت في هذه الأيام المباركة إلى أعلى درجاتها من الجنون، وبات معها كل شيء مباحاً من ترويج أكاذيب أو شائعات أو إيذاء خلق الله في حياتهم الخاصة، وأصبح معها كل شيء صالحاً أن يتحول إلى معركة من معارك فلانة قلعت وفلانة لبست وفلان اتجوز وفلان طلق ومين قال إيه على مين؟!.. تحولت الـ"سوشيال ميديا" إلى فسحة كبيرة للعجن واللت والنم والسب والتجريح والتجريس بلا ضابط أو رابط، وصارت الأصوات العاقلة لا محل لها من الإعراب وسط هذه الهمجية الطافحة من شاشات ذكية صغيرة جداً لم تخلق من أجل كل هذا الخراء.. أبداً!