بين الحين والآخر أمضى إليه، ألتقيه فى مكتبه وأستمع إلى كلماته وتحليلاته، لا يزال الرجل حاضراً مهموماً بالوطن وبالتطورات التى يشهدها.
منذ أيام التقيته، جلست إليه، بادرنى بسؤاله التقليدى: لسه طيب ولا تعلمت الخبث؟ ابتسمت وقلت له: سأترك الحكم لك، وبعد أن مضيت إلى منزلى، اتصل بى وقال لى: لا، لسه فيك شوية طيبة.
إنه الجنزورى.. القيمة والقامة، الإنسان البسيط، رجل الاقتصاد المتميز، رئيس وزراء مصر السابق.
لقد تعرفت عليه منذ عام 1996، اقتربت منه، كان يعاتبنى أحياناً بسبب رؤية أو تحليل أو معلومة يراها خاطئة، وكنت أتقبل عتابه بقلب مفتوح، فأنا أدرك إخلاصه وصدقه ونزاهته ووطنيته، ألتزم الصمت، ولا أجادل كثيراً، ثم أعود إلى مصادرى، ثم أراجع نفسى، وأطلق العنان لأفكارى.
عندما تمت إقالة الدكتور الجنزورى بدون مقدمات، تساءل الكثيرون: كيف ولماذا؟ تعددت الروايات، ربما لأن الرجل حاول أن يمارس دوره كرئيس للوزراء، وليس كسكرتارية للرئيس كما قال أحد كبار المسئولين فى عهد سابق.
عاد الجنزورى إلى شقته التى لم يغيرها، بذات الإيجار القديم 18 جنيهاً شهرياً، فُرضت عليه رقابة شديدة، وعندما أدرك رجال السلطة أن الناس يلتفون حوله كلما ذهب لأداء الصلاة فى يوم الجمعة، طلبوا منه أن يلزم بيته.
كنت أداوم على الاتصال به بشكل مستمر، وكان أشد ما يؤلمه هو انصراف الكثيرين ممن ربطته بهم صداقة وعلاقة عن التواصل معه، فهكذا هو حالنا، إذا شعر البعض بأن هذا الشخص مغضوب عليه انقطعوا عنه وتحاشوا مقابلته، وهذا هو ما حدث مع الدكتور الجنزورى فى هذا الوقت.
وعندما عاد ليرأس مجلس الوزراء فى نوفمبر 2011 شكّل حكومة للإنقاذ الوطنى، اختار فريقاً متميزاً للعمل معه، وكان شرطه ألا يتدخل أحد فى أعمال مجلس الوزراء ليستطيع الجنزورى فى هذه الفترة أن يحمى الدولة من الانهيار الاقتصادى الذى كان يواجهها بشدة بسبب إضرابات المصانع وتعطل الإنتاج وانتشار المظاهرات الفئوية وأحداث العنف فى عموم البلاد.
لقد حكى لى الجنزورى وقال: «إن محمد مرسى وسعد الكتاتنى» زاراه فى مكتبه فى ديسمبر 2011 لتهنئته برئاسة الحكومة، وقد عرضا عليه فى هذا الوقت أن يرشح نفسه لرئاسة الجمهورية وسوف يسانده الإخوان بكل ما يملكون بشرط أن يعين خيرت الشاطر نائباً لرئيس الجمهورية، غير أن الجنزورى رفض العرض جملة وتفصيلاً.
وخلال فترة رئاسته للحكومة، كانت تجمعنا لقاءات متعددة، كان هناك لقاء أسبوعى يوم الجمعة نتحاور فيه فى أوضاع البلاد ومستقبلها، يستمر لأكثر من ساعة، ناهيك عن اللقاءات الأخرى، وكنت أستمتع كثيراً بأفكاره ومواقفه، خاصة أننى كنت عضواً فى مجلس الشعب الذى كان يسيطر عليه الإخوان والسلفيون فى هذا الوقت بنسبة تتعدى الـ70٪ عندما أدرك الإخوان أن الجنزورى لن يكون لقمة سائغة كما كانوا يظنون، انقلبوا عليه، وطالبوا بإبعاده عن منصبه، خاصة بعد أن وصلت إليهم معلومات تفيد بأن المحكمة الدستورية قد تصدر حكماً بحل مجلس الشعب، ساعتها أدرك الإخوان أنهم لا بد أن يسيطروا على الحكومة حتى لا يفقدوا كل شىء، فبدأوا فى اصطناع الأزمات والمعارك تحت قبة البرلمان.
وفى يوم الخميس 22 مارس 2012، حدثنى د. الجنزورى فى وقت مبكر، وقال لى: سأنتظرك فى مكتبى لأتحدث معك فى أمر هام، وعندما ذهبت إليه قال لى إن هناك لقاء غير معلن نظمه الفريق سامى عنان، رئيس الأركان، بينى وبين سعد الكتاتنى لمعرفة أسباب موقف الإخوان من الحكومة.
وقد حملنى فى هذا الوقت رسالة إلى مرشد الإخوان محمد بديع، لماذا كل هذا العداء له وللحكومة، وعندما قابلت المرشد فى هذا الوقت، قال لى بلغة حادة: أبلغ المشير طنطاوى أن عليه أن يستجيب لمطلب الإخوان بإقالة الجنزورى وحكومته وتشكيل حكومة تضم الإخوان وغيرهم أو أن يلجأ الإخوان إلى مجلس الشعب لسحب الثقة من هذه الحكومة.
ورغم أن الإعلان الدستورى لم يكن يعطى للبرلمان فى هذا الوقت حق سحب الثقة من الحكومة فإن مجلس الشعب تحول إلى ساحة للصراعات مع الحكومة، وتوجيه الإنذارات إلى المجلس العسكرى.
حكى لى د. الجنزورى تفاصيل ووقائع اللقاء السرى الذى نظمه الفريق سامى عنان، وكيف تعامل سعد الكتاتنى وهدد بأن الإخوان لن يصمتوا. ورغم سرية اللقاء فإن سعد الكتاتنى راح يحكى لقناة الجزيرة تفاصيل غير صحيحة عن هذا اللقاء، من بينها أن الجنزورى قال له إن قرار المحكمة بحل مجلس الشعب فى درج مكتبه.
وعندما اتصلت بالفريق سامى عنان مستفسراً عن حقيقة ادعاءات سعد الكتاتنى، أنكر ذلك جملة وتفصيلاً، فقط كان المطلوب الضغط على المشير طنطاوى لعزل الحكومة وتولى جماعة الإخوان تشكيلها.
كان المشير طنطاوى واعياً بمخطط الإخوان، ولذلك رفض كل تهديداتهم، وأصر على استمرار الجنزورى، حتى إن أجرى تعديلاً يحوى عدداً محدوداً من الوزراء.
ظل الجنزورى يبذل كل جهده فى هذه الفترة، محاولاً الخروج بالبلاد من أزمتها، ولقد لوحظ فى هذه الفترة عودة مظاهر الانضباط إلى الشارع المصرى «المنفلت»، خاصة أن اللواء محمد إبراهيم يوسف، وزير الداخلية فى هذا الوقت، وجد كل الدعم من الجنزورى والمشير، مما زاد من حماسه لإعادة الأمور إلى وضعها الطبيعى فى البلاد.
وعندما جرت الانتخابات الرئاسية كان الجنزورى قلقاً من وصول الإخوان إلى الحكم، تعددت اللقاءات معه، ثلاث أو أربع مرات أسبوعياً، نتبادل المعلومات وأستمع إلى رؤيته وتحليلاته لطبيعة المرحلة.
قبيل إعلان النتيجة بقليل استدعانى الجنزورى إلى لقاء محدود مع عدد من الوزراء والشخصيات السياسية والقانونية، وكان الهدف تشكيل هيئة تأسيسية تضع الدستور وتستبق صدور أى حكم يقضى بحل الجمعية التأسيسية التى شكّلها الإخوان، واقترحنا أسماء مائة شخصية وتمت الموافقة عليهم ولم يكن بينهم من الإخوان سوى أربعة أشخاص فقط، وعلى الفور أرسل بالأسماء إلى المجلس العسكرى لاعتمادها.
ظل الجنزورى طيلة الفترات التالية مهموماً بأوضاع البلاد، وعندما كنت أذهب إليه فى فترة حكم الإخوان كنت أراه حزيناً يسأل: متى الخلاص؟!
مضت الأيام صعبة ومؤلمة، لكننى شعرت بأن الروح عادت إليه مرة أخرى بعد انتصار ثورة الثلاثين من يونيو وسقوط حكم الإخوان.
وعندما كُلف الجنزورى بإعداد قائمة «فى حب مصر» لانتخابات البرلمان، أعطى كل جهده ووقته، ورشح أسماء تليق بالبرلمان، غير أنه فوجئ بتغييب دوره بلا مبرر، التزم الصمت، لم ينطق بكلمة واحدة، كانت كل أمنيته أن يكون هناك برلمان قوى يساعد الرئيس فى تنفيذ برنامجه الإصلاحى.
ورغم مرور الأيام، وكبر السن، فإن الجنزورى هو الجنزورى، يوجد فى مكتبه منذ الصباح ويغادر قبيل العصر بقليل، وخلال هذه الفترة يشغل نفسه بمتابعة الأوضاع واللقاء مع فئات متعددة، همه الأول والأخير هو الوطن الذى عاش من أجله، مردداً دائماً عبارته الشهيرة: «كلنا مدينون لمصر».
فى آخر لقاء سألنى الجنزورى عن حال الشارع، فشرحت له الأوضاع، فقال: أرجو أن يتذكر الناس أين كانت مصر، وكيف أصبحت الآن، سيُحسب للرئيس السيسى أنه أنقذ الوطن وحمى البلاد من حرب أهلية كانت ستقضى على الأخضر واليابس.
نعم، سيبقى الجنزورى واحداً من هؤلاء الرجال الذين قدموا الكثير، ولا يزال، أطال الله فى عمره ومتعه بالصحة والعافية.