"هنا القاهرة.. نجحت قواتنا فى اقتحام قناة السويس فى قطاعات عديدة واستولت على نقاط العدو القوية بها ورفع علم مصر على الضفة الشرقية للقناة.. هنا القاهرة".
يتبعه فرحة عارمة فى المقاهى والجميع يتبادلون الأحضان ويهتفون ويهللون "الله أكبر"، ثم يقوم
الـ "قهوجى" بتوزيع الشربات على الزبائن فور صدور بيان العبور الساعة الرابعة عصر العاشر من "رمضان".. وربما يكون هذا الشربات "صيامى"!
هذا هو المشهد الرئيسى لفرحة النصر فى كل الأعمال الفنية "الماستر سين"، والحقيقة أننا محترفون فى صنع الثغرات فى الأعمال المهمة، وليس هناك أهم من ذكرى نصر أكتوبر.. أهم ذكرى حدث لمصر فى تاريخها الحديث!
المشكلة هنا ليست فى قضية هذا المشهد أو تكراره فى كل الأعمال تقريباً بنفس الشكل والمضمون.. ولكن المشكلة الحقيقية هى كيفية الاحتفال بذكرى أكتوبر والتى تم اختزالها فى مجموعة من الأفلام كتبت على الجيل الحالى ويبدو أنها ستكتب أيضاً على الأجيال القادمة!
فكرة الأعمال الفنية المقررة لاحتفالات أكتوبر أصبحت "مُنغصة" أكثر منها "احتفالية"، فبعظمة هذا النصر التاريخى والعبور العظيم وحرب أدارها جيش مصر يتم تدريسها فى أكبر الأكاديميات العسكرية فى العالم، تم اختزال كل ذلك فى مجموعة من الأفلام على مدار 44 عاما تعانى من "اليتم والوحدة"، يتم تكرارها سنوياً كمقرر احتفالى لا بديل عنه فى شكل مراسم الاحتفال بذكرى أكتوبر، وهو الأمر الذى أصبح مع الوقت يُفقد هذا اليوم زهوته ويصيب المتابع بالملل، فما تفتحت أعيننا و نشأنا عليه مستمر معنا وسنسلمه للأجيال القادمة بكل رتابة واستسلام، وكأن هذه الأعمال أصبحت علامة مكملة لهذا النصر واحتفالنا به ولا يجب الاقتراب منها بأى جديد، وأن التاريخ سيلزم ذكرى أكتوبر بهذه الأعمال لا غير.
هذه الحالة التى لا تفسير لها إلا أنها "فقر فكرى" تدعو للدهشة والاستغراب، فكيف أننا نملك مثل هذا الحدث التاريخى بكل زخمه وتفاصيله ونتوقف عن إنتاج أعمال متجددة توثقه وتخلده بتفاصيله التى تكاد لا تنتهى، ويتم حصر ذكرى أكتوبر فى ماض إنتاجى يصعب منه تذكر آخر عمل تم تقديمه وسنة إنتاجه، ولكننا نتذكر جيداً ونغرق منذ سنوات بين أفلام المقاولات والراقصات، لتتحول أفلام النصر إلى ذكرى تلحق بـ "ذكرى أكتوبر".
حالة "الفقر الفكرى" لم تتوقف عند فكرة عدم إنتاج أعمال جديدة عن هذا النصر، ولكنها امتدت لعدم الاستفادة بالجديد نفسه، ففى الوقت الذى أعلن فيه كيان العدو الإسرائيلى الإفراج عن مجموعة جديدة من وثائق حرب أكتوبر السرية لديه لتُعلَن للعالم منذ أكثر من عام، تجدنا مازلنا غارقين وسط أفلام البلطجة والرقص، ومع اقتراب ذكرى أكتوبر نخرج من صندوق ذكرياتنا مجموعة الأفلام اليتيمة التى نمتلكها لتُعرض فى موسمها السنوى، ومنها ما يُعرض بنسخة متواضعة فقط ليمر اليوم بأسلوب "عدى الليلة"!
أزمة حقيقية تعيشها "ذكرى أكتوبر" هى فى الأصل جزء من أزمة صناعة كاملة تحتاج مساحة نقاش منفردة، بعد أن تحولت من صناعة إلى تجارة، ففى ظل هذا التطور الكبير فى الإمكانيات والتقنيات التى تمكننا من صناعة أعمالاً لها ثقلها من الجودة شكلاً ومضموناً، إلا أن هذه الإمكانيات يتم توظيفها بعيداً عن الأهداف المؤثرة ربما لأن القائمين على الصناعة هدفهم الأول تجارى، وفى نفس الـ "ربما" فأفلاماً سينمائية عن حرب أكتوبر بشكل جديد قد تحتاج دعماً كبيرة من الدولة نفسها.. أو المؤسسات الفنية التى تدعمها وهو الأمر الضرورى الذى أصبح يحتاج لإعادة تفكير.
فى أمريكا تعتمد السينما على تمجيد الجندى الأمريكى وإظهار جيشها دائماً بالشكل الأسطورى، وأن هذا الجندى مواجهته هلاك لا محالة، رغم أنه قد يهرب مذعوراً من فأر فى ساحة المعركة ولا يمتلك عقيدة الجندى المصرى خير أجناد الأرض ،إلا أن السينما تقوم بعملية التضخيم لتصدير صورة "أسطورية" تثبت فى الذهن والعقل الباطن باستحالة مواجهته وهو فى الأصل يعتمد فقط على الإمكانيات المتطورة للأسلحة، إلا أن هناك رؤية وخطة لوضع الجيش فى إطار محدد تستغل قوة وتأثير سحر السينما والتى تعبر العالم وتعتبر من الأسلحة المهمة، فى الوقت الذى نعتمد نحن فيه على تمجيد البطل "البلطجى" وصناعة "أسطورة" من نوع آخر ليتضح ما بين الصناعتين من "فرق سرعات"!
الحقيقة أننا نحتاج وبشدة علاجاً سريعاً لـ "الفقر الفكرى" وحالة الالتهاء التى أصابت المجتمع والقائمين على صناعة الأعمال الفنية منذ عقد طويل، فالأعمال من هذه النوعية بجانب أنها تدعم صورة القوة التى تمتلكها الدولة، إلا أنها أيضاً قد تعالج "السكتة الوطنية" التى أصابت نفوس الكثيرين ودفعتهم لبيع وطنهم بابخس الأثمان.
"ذكرى أكتوبر" تحتاج وقفة حاسمة من أصحاب القرار وتوجيه جزء من دعمهم لصناعة أعمال جديدة تؤرخ لهذا النصر، فمؤكد هناك بطولات وتفاصيل ما زالت فى جعبة "الراوى"، وأيضاً هناك زوايا أخرى.. فإذا كانت كل الأعمال تنتهى بفرحة العبور إلا أن هناك رؤى جديدة بعد مرور 44 عاما، وما نتج من تطورات وقرارات حول العالم تسبب فيها هذا النصر الذى كسر شوكة وأسطورة الجيش الذى لا يهزم وأصبح عقدة لدى جيوش وواضعى خطط العالم، جعلهم يعدلوا من إستراتيجياتهم الخططية بعيدة المدى والتى حققت نتائج أصبحنا نراها اليوم واضحة بأعيننا.. فتنفيذ أعمالاً فنية تخص حرب أكتوبر وتبعاتها بأفكار جديدة ستحقق نجاحات وأهداف أوسع، خاصة فى ظل تطور الأحداث وتعاقبها بخطورتها خلال تلك الفترة الزمنية.
ما يحدث من استهانة واستسهال لهذه الذكرى ما هو إلا خطيئة كبرى.. "خطيئة ذكرى أكتوبر"!