«الوطن» تحاور فريق العالم «سعادة» المسئول عن فك شفرة «وقود الصواريخ» قبل حرب «أكتوبر».. ملحمة وطنية أسهمت فى النصر
عضو الفريق البحثي يشير لجهاز QUV لتنقية الوقود تصوير - محمد مصطفى
تعود قصة هذه الملحمة الوطنية إلى 45 عاماً مضت، ففى صباح أحد أيام عام 1972 فوجئ العالم الراحل الدكتور محمود يوسف سعادة، رئيس قسم الهندسة الكيميائية والتجارب نصف الصناعية بالمركز القومى للبحوث، بخبر يتصدّر الصحف عن قرار الرئيس الراحل أنور السادات بطرد الخبراء السوفيت من مصر، لكن لم يتصور أنه سيكون له دور فى مرحلة ما بعد الخبراء السوفيت، حيث عُهد إليه بابتكار بديل مصرى لوقود الصواريخ قبل حرب أكتوبر، وهى الملحمة التى يسرد تفاصيلها لـ«الوطن» عدد من أعضاء فريق العالم الراحل لأول مرة.
«القومى للبحوث» شهد تجارب العلماء المصريين لابتكار بديل مصرى لـ«الوقود السوفيتى» حتى خرج إلى النور
«هنبعت لك العينات دلوقتى.. عايزين الوقود ده فى أسرع وقت»، بهذه الكلمات تلقى «سعادة» مكالمة هاتفية أواخر عام 1972 من أحد قيادات الجيش المصرى، رجح أن يكون اللواء محمد على فهمى، بحسب ما ذكره الراحل اللواء طيار محمد زكى عكاشة فى كتابه «جند من السماء»، ما يعنى استمرار التواصل بين الجيش والراحل «سعادة» حتى بعد ترك الأخير التدريس فى الكلية الفنية العسكرية واختيار التعيين باحثاً بالمركز القومى للبحوث عام 1965.
طالبه «فهمى» بوقود بديلاً عن وقف الاتحاد السوفيتى توريد وقود للصواريخ، التى استخدمت فيما بعد فى حرب أكتوبر، اتجه «سعادة» على الفور لتشكيل فريق بحثى من قسم الهندسة الكيماوية يتكون من سبعة أفراد، ليبدأ مسيرة علمية امتدت لستة أشهر، سطر خلالها ملحمة علمية توجت بنصر أكتوبر، فى ظل سرية تامة دفنت معه حتى رحيله عام 2011 ولم تكن أسرته تعلم شيئاً عن مشروع وقود صواريخ أكتوبر إلا بعد قراءة الكتب التى تحدثت عن هذا الإنجاز القومى عقب رحيله، وتطالب الدولة بتخليد ذكراه تكريماً له.
«إحنا كنا بنام فى المركز بملابس متسخة بالوقود نعمل على مدار الأربع وعشرين ساعة دون كلل وكان يكفينا النظر إلى وجه الدكتور سعادة لشحن طاقتنا»، بهذه الكلمات بدأ الدكتور السيد محمد حلمى خاطر، أستاذ باحث متفرغ بقسم الهندسة الكيماوية بالمركز القومى للبحوث وعضو الفريق المشارك فى مشروع إنتاج وقود الصواريخ، يتذكر أحداثاً مر عليها أربعون عاماً عانقت فيها الخبرات العلمية المصرية المعدات العسكرية لتسطر تاريخ نصر أكتوبر.
وبخطوات متسارعة اصطحبنا «خاطر» داخل معمل التجارب نصف الصناعية، الذى يكتظ بالمعدات المختلفة يمكن أن تكون نواة لصناعة وطنية حقيقية، وبدأ «خاطر» فى الإشارة لإحدى المعدات التى يصل طولها لمتر تتكون من ثلاث كرات زجاجية مختلفة الأحجام، استخدمت فى عملية تنقية الوقود من الرطوبة، تبدأ بوضعه فى الزجاجة الأكبر حجماً التى تتوسط المعدة قبل أن تخرج للأصغر حجماً بعد تنقيتها بمقاييس محددة نجح الفريق البحثى فى الوصول إليها، ليخرج الوقود من أنبوب صغير أسفل المعدة لملء ما يقرب من عشرين برميلاً لتبدأ سيارات الجيش المصرى فى نقل الأطنان منه مباشرة إلى الصواريخ المصرية التى أضاءت سماء حرب أكتوبر.
«إيد واحدة»، هى كلمة سر نجاح الفريق البحثى، كما ذكر «خاطر»، الذى تجمع حول «سعادة»، ليتحول بمثابة أخ لهم، بحسب عضو الفريق البحثى يشملهم برعايته العلمية والأخلاقية، وبخاصة أن البعض منهم كان حديث التخرج، والبعض الآخر سجل الماجستير والدكتوراه مع «سعادة».
«خاطر»: «عملنا على 3 ورديات طيلة 6 شهور مع مواد خطرة.. لدرجة أننا منعنا الضحك أثناء العمل»
قال «خاطر»: «كان يجمعنا فى جو اجتماعى وعائلى عندما يقرر أن نستكمل اجتماعاتنا فى منزله وكنت آخذ رأيه فى أمور شخصية.. وهذه الروح هى التى من أجلها كان النجاح فى مشروع إنتاج الوقود بمثابة تحد يمكن أن نضحى فى سبيله، ونتحمل التعامل مع مواد شديدة الخطورة وهى الوقود.. ولكن هذا لم يفت فى عزيمتنا وإصرارنا على العمل بجدية طيلة أشهر المشروع على ثلاث ورديات، لدرجة أننا كنا نمنع الضحك أثناء العمل».
«لا لن نستطيع»، هكذا رد «خاطر» على ما إمكانية تكرار مثل هذا الإنجاز حالياً، لافتاً إلى اختفاء أخلاقيات العمل الجماعى والاهتمام بالماديات، كما أن فريق الدكتور سعادة توزع كل فى تخصصه داخل قسم الهندسة الكيميائية ولم يجتمعوا على مشروع آخر.
وبداخل غرفة صغيرة تكتظ بالمكاتب، بالكاد ترفع الدكتورة إلهام الزناتى، أول من حصل على دكتوراه فى الهندسة الطبية فى مصر وعضو الفريق البحثى لإنتاج وقود الصواريخ، رأسها من مراجعة أحد الأشكال البيانية لإحدى الدراسات التى تظهر على شاشة حاسوبها الصغير لتبدأ فى الرد على تساؤلات «الوطن» عن ذكرياتها مع أستاذها الدكتور سعادة.
«الدكتور سعادة أستاذى الذى أعتز به كثيراً وأفخر بأننى عملت معه»، هذه أولى الكلمات التى سرعان ما قالتها «الزناتى» لتشير إلى أن أول من أدخل تخصص الهندسة الطبية فى مصر كان «سعادة» عقب توليه رئاسة قسم الهندسة الكيميائية فى الفترة من 1965 حتى عام 1977.
ووصفت «الزناتى» مشروع إنتاج الوقود لصواريخ حرب أكتوبر بالأيادى البيضاء التى تركها «سعادة» فى تاريخ مساهمة العلوم فى التاريخ المصرى، من خلال الاعتماد على المجهودات الذاتية وفريق بحثى يتكون من مجموعة من المهندسين صغيرى السن تحت قيادة «سعادة»، لنعمل فى دوريات لا تنتهى على مدار الساعة ونجحت تجارب المعمل فى تقطير الوقود المصرى ليصبح مطابقاً للمواصفات المطلوبة.
«كان شجاعاً لينفذ هذا المشروع»، قالت «الزناتى» عن الدكتور سعادة، الذى واجه انتقادات من بعض الأساتذة بالمركز وقتها لإيقاف تنفيذ المشروع بدعوى أنه ملوث للمعمل لاستخدامه الوقود، وهى مبررات غير منطقية كان يقف وراءها مصالح شخصية، إلا أن «سعادة»، كما ذكرت «زناتى» لم يلتفت إليهم ليستكمل مسيرته.
«العبد»: المشروع كان مسألة «حياة أو موت» بالنسبة لنا.. وأطالب بخطة للاستفادة من معامل التجارب نصف الصناعية
لفتت «الزناتى» إلى أن الفريق البحثى لم يتلق أى مكافآت على مشروع إنتاج وقود صواريخ أكتوبر، واكتفى بأنه شارك فى ملحمة وطنية، وبخاصة أن وقت تنفيذ المشروع كانت البلاد معبأة بالروح الوطنية والحماسة، ما جعل حب البلاد والتفانى فى إنجاح الحرب المكافأة الأكبر التى كان يتطلع لها الجميع، وما زالت فخورة بالمشاركة فى هذا المشروع.
«كنا بنعمل دوريات بالليل فى المركز عشان نشوف فيه حد غريب وسطنا ولا لأ»، هكذا تذكر الدكتور شريف عيسى، الرئيس الأسبق للمركز القومى للبحوث وعضو الفريق البحثى لإنتاج صواريخ أكتوبر، فى لقائه بـ«الوطن»، لافتاً إلى أن الروح الوطنية التى جمعت الجميع لتنفيذ مشروع وقود الصواريخ كانت أكبر من الاهتمام بملابسهم التى كانت متسخة على الدوام بسبب المواد الكاوية والأحماض التى تعاملوا معها.
لفت «عيسى» إلى أن نجاح مشروع إنتاج الوقود دليل على أن المصرى عندما يقرر إيجاد حل لمشكلاته يستطيع تنفيذ ذلك حتى وإن ترك أسرته بالأيام وظل منكباً فى المعمل للمساهمة فى مشروع سُطر بحروف من نور فى التاريخ. وأشار «عيسى» إلى ضرورة ارتباط البحث العلمى بالصناعة، وهو أحد الأسباب التى جعلته يترك التعيين معيداً بكلية الهندسة ليلتحق بقسم الهندسة الكيميائية وتحديداً وحدة التجارب النصف صناعية لتصل فائدة البحث العلمى مباشرة إلى المجتمع، ورغم توليه فترة رئاسة المركز فى وقت سابق خولت له وضع خطة وصفها بـ«المحكمة» لتحويل الأبحاث لمنتجات بحثية إلا أنه فوجئ بأن هناك من يتفنن فى تخريب إنجازات القيادات السابقة.
وبصوت لا يخلو من الإصرار، قال الدكتور همام العبد، عضو الفريق البحثى لمشروع إنتاج وقود صواريخ أكتوبر: «الانتماء يصنع المعجزات.. ومشروع إنتاج الوقود كان مسألة نكون أو لا نكون.. والسر الحقيقى القيادة الصالحة».
واختلطت كلمات «العبد» بين الفخر بالمشاركة فى مشروع إنتاج الوقود، والتحسر على انهيار صروح علمية تمثل الصناعة الوطنية، مثل شركة المحلة للنسيج، وكفر الدوار لصناعات النسيج، متسائلاً لمصلحة من توقف هذه الصروح الوطنية عن العمل؟ لافتاً إلى وباء الاستيراد والعمولات التى يتلهف وراءها البعض على حساب الصناعة الوطنية المصرية، فمثلاً مادة مثل «البنتونايت» موجودة وبكثرة فى الصحارى المصرية يمكن تصميم خط كامل للتصنيع المحلى والاستفادة منها لتصل تكلفة إنتاجها بضعة جنيهات بدلاً من استيرادها بنحو ثلاثمائة دولار.
لفت «همام» فى لقائه بـ«الوطن» لضرورة وضع خطط وطنية واضحة للاستفادة من المعامل النصف صناعية، مع وجود إصرار على العمل ولا يتحول لمجرد إجراء روتينى ينتهى بانتظار الراتب نهاية الشهر، وللأسف روح الإصرار على العمل نفتقدها تماماً اليوم، وتحتاج منظومة العمل لإعادة ترتيب مع الحفاظ على التخصصات الدقيقة مع وجود مشروعات قومية تنسيقية بين التخصصات المختلفة.
د. همام العبد