البارزانى الأب وقع اتفاق الحكم الذاتى مع الرئيس عبدالسلام عارف 1964، متعهداً بإنهاء ثورة الكرد، بعد عشر سنوات طمع فى آبار نفط كركوك، وهدد بثورة جديدة، انشقاق طالبانى، الأكثر تعقلاً وحكمة 1987، أعطى أملاً فى مراعاة صالح الوطن، ولكن بمجرد هزيمة العراق فى حرب تحرير الكويت 1991 بدأت انتفاضة جديدة، أخمدها صدام رغم جراحه، الحرب الأهلية نشبت بين طالبانى وبارزانى الابن 1994، انتصر الأخير بدعم تركى مباشر 1996.. انتهز فرصة الغزو الأمريكى، لبناء مقومات الدولة، قوات مسلحة، شرطة، علم، نشيد قومى، حكومة محلية، برلمان، ودستور خاص.. بدأ تصدير النفط لحسابه 2009، بمعدلات بلغت 900.000 برميل/يوم، تمثل ربع إنتاج العراق، استغل اجتياح داعش 2014 لإعلان نيته إجراء استفتاء الاستقلال، لكنه تأجل لتمدد التنظيم ببعض قراهم، داعش شغلت الحكومة المركزية عن الخنجر المزروع بخاصرة الوطن، استغلها البارزانى لاحتلال كركوك، وتبرير التسلح والتدريب.. وقبل استكمال العراق تحرير أراضيه، فوجئ باستفتاء الاستقلال 25 سبتمبر.. عقود من الاستنزاف والتآمر، يتوارى صلاح الدين الأيوبى خجلاً من مرتكبيها، يبكى حزناً على ما لحق بالوطن، لو بُعث من مرقده لضرب على أيدى البارزانى والذين معه، ولكن أين المفر؟!.
خطب جلل، لكن العراق مطالب بالتعامل الرصين معه، تجنباً لفتح جبهات جديدة، فقد تدفع الأوضاع «الإقليم» للتراجع، خاصة أن علاقة بغداد بأربيل لم تعد قضية داخلية، بل تخضع لإرادة القوى الدولية والإقليمية الرافضة للانفصال، فلماذا يدفع العراق وحدة ضريية الأزمة؟!.. «الإقليم» يواجه مشاكل مزمنة؛ انتهت ولاية البارزانى الرئاسية أغسطس 2015، القانون لا يسمح بالتمديد، ناور للتجديد، أو توريث نجله، وفشل، الكتل البرلمانية طرحت مشاريع قوانين لانتخاب رئيس جديد، غضب وعطل البرلمان ليستمر فى منصبه حتى الآن!! اختلال النصاب امتد للحكومة نتيجة إقصاء الكتل المعارضة.. الاتحاد الوطنى بزعامة طالبانى، كتلة التغيير، الجماعة الإسلامية، الحركة الإسلامية، والجبهة التركمانية يعارضون الانفصال، الحزب الديمقراطى بزعامة البارزانى يسيطر فقط على أربيل ودهوك، بينما تخضع السليمانية لطالبانى، ولكل منهما قوات عسكرية وأمنية ومخابرات مستقلة!! موقف مهيأ للصدام.. الوضع الاقتصادى والمالى بالغ الصعوبة، إيرادات النفط لا تدخل فى حسابات معلنة، ولا رقابة على الأموال العامة، الفساد وسوء الإدارة سيد الموقف، توقف صرف المعاشات، وجُمِدَت المرتبات، ما أدى لحالة سخط، شركات النفط هددت بالانسحاب لتأخر مستحقاتها.. عمق المشاكل وتعددها يجعل التلويح بالاستقلال هروباً للأمام، ومناورة للضغط، لأن تنفيذه يفجر المواجهات، ويسقط «الإقليم».
نسبة المشاركة العامة فى الاستفتاء 72%، مدينة حلبجة ضحية أبشع مجازر القصف الكيماوى 1988 «56%»، جمجمال «63%»، كركوك «78%».. معدلات تعكس عمق الأزمة، ولا تتناسب وما يدعيه البارزانى من إجماع، لأنه تجاهل التعددية الطائفية للإقليم «أكراد، تركمان، عرب آشوريين، كلدان، أرمن»، والمذهبية «الشيعة، السنة، الأيزيديين»، بما يترتب عليها من نتائج.. والأخطر حالة الاستقطاب الطائفى التى دفعت التكتلات الشيعية فى برلمان بغداد لرفض استقلال «الإقليم»، وانضمام التركمان والأيزيديين إلى الحشد الشعبى لشعورهم بالإهمال والتهميش وفقدان الأمن، البشمرجة والحشد، أصبحا على وشك المواجهة، بعد أن حاربا داعش من خندق واحد، بشمرجة البارزانى رصدوا أكثر من 250 عائلة رفضت المشاركة فى الاستفتاء، ورحلتهم قسرياً، فى انتهاك لحقوق الإنسان، المحتجون العرب أنزلوا عَلم «الإقليم» من مقر مجلس مندلى بمحافظة ديالى، وأقالوا العمدة الكردى، ورفضوا المشاركة فى الاستفتاء.
موقف تركيا من الأزمة يعتبر الأهم، علاقتها بالبارزانى بالغة الخصوصية، رغم ذلك أوصت رعاياها بمغادرة كردستان، وسعت نطاق مناوراتها العسكرية على الحدود، هددت باستهداف عناصر حزب العمال «الإرهابى» فى جبال قنديل وسنجار، أدوات الضغط التركية عديدة؛ إغلاق المعابر التجارية، إلغاء تسهيلات الاستثمار وخطوط الائتمان، تقييد عبور النفط نحو ميناء جيحان للتصدير، تجميد اتفاقية إنشاء خط نقل الغاز إلى ولاية شرناق، الحظر الجوى للطائرات المتجهة لكردستان، إخراج القنوات الكردية من خدمة القمر الصناعى توركسات.. إيران تراهن على طالبانى، وتعتبر الأزمة الراهنة تحدياً لأمنها القومى، لأن تأسيس دولة كردية صديقة لإسرائيل يعزلها عن سوريا ولبنان، ويفتت العراق، أغلقت المعابر، فرضت حظراً جوياً، وقيوداً على التبادل التجارى، بدأت مناورات للحرس الثورى على الحدود، قصفت بعض المناطق الكردية المتاخمة بحجة وجود مقرات لأحزاب كردية معارضة، وقطعت مياه نهر الزاب الصغير.. رئيس الأركان بحث فى تركيا شن عملية عسكرية مشتركة حال إعلان استقلال كردستان، ونظيره التركى بصحبة أردوغان قريباً فى طهران لمزيد من التفاصيل.
أمريكا ثالث القوى المؤثرة، اعتمدت على الأغلبية الشيعية المغبونة للإطاحة بنظام صدام، استغلت داعش كفزاعة للعودة للعراق، وتستخدم الأكراد كأداة تقسيم، وفرض «حدود الدم»، رغم التزامها بالمحافظة على وحدة العراق واستقلاله بمقتضى الاتفاقية الإطارية 2008.. لم يستوعب الأكراد دلالات حث أمريكا لأشقائهم فى سوريا على التقدم غرب الفرات لتحرير الشريط الحدودى التابع لداعش، لعزلها عن منافذ التحرك والدعم، ثم التخلى عنهم أمام اجتياح قوات درع الفرات التركية، الأكراد أدوات سياسية لأمريكا، مهمتهم الراهنة الحد من نفوذ إيران، ومنعها من استكمال السيطرة على العراق، قوة الرفض التركى تجاوزت المتوقع، ما قد يفرض عرض صفقات ضمن تسويات المنطقة، على نحو موافقة تركيا على دولة كردستان مقابل منحها محافظة إدلب السورية وبعض مناطق شمال حلب، لكن موافقة تركيا مستبعدة، لأن المخاطر تفوق المنافع، ما يفسر مؤشرات تراجع الأكراد عن تشددهم؛ البارزانى اعتبر الاستفتاء «مجرّد وسيلة لمعرفة رأى الشعب الكردى»، هوشيار زيبارى، وزير الخارجية الأسبق، نفى أن يكون ملزماً، و«الدباغ» ممثل «الإقليم» فى إيران أكد أن الأكراد ليس لديهم نية للانفصال، وأن ما يجرى تكتيك تفاوضى للضغط على بغداد للوفاء بالتزاماتها فى ملفات الطاقة وتقاسم السلطة، وحصتها من الميزانية الاتحادية.
تفجير أزمة استقلال كردستان يمثل عملية تحريك لكرة نار قبل انتهاء معركة التحرير ضد داعش، حتى يتحقق الهدف من اجتياحها للعراق، وتخلق نواة لأزمة جديدة، بتفاعلاتها وتداعياتها المستقبلية.. «الإقليم» يفتقد مقومات الانفصال، ما لم يُسمح له بابتلاع «كركوك»، المحافظة التى ينبغى أن تُعامل باعتبارها الخط الأحمر للأزمة، إسرائيل الدولة الوحيدة التى تجهر بدعم انفصال كردستان، لكن التنسيق العراقى مع إيران وتركيا يمكن أن يئد تلك الدعوة، وتأكيد الالتزام بالوفاء بحقوق المواطن الكردى فى الثروات الوطنية يخرس ألسنة التشدد، وقد يجنبنا الحرب، القضية سياسية فى الأساس، ومعالجتها من منطلق طائفى أو عرقى يفرض حتمية المواجهة.. نجتاز حقلاً من الألغام، فهل ننجح فى عبوره؟!