عند مياه البحر الكاريبى وقعت أحداث رواية «الحبّ فى زمن الكوليرا».. وعند مياه البحر الأحمر تقع أحداث «الحرب فى زمن الكوليرا».
(1)
فى عام 1985 أصدر الأديب العالمى «جابرييل جارسيا ماركيز» روايته الشهيرة «الحب فى زمن الكوليرا».. وهى روايةٌ فى «الحُبّ بعيد المدى».. إنَّه الحبّ حتى لو كان بضع لحظاتٍ عند آخر المشوار وفى نهاية العمر.. إنَّهُ القرار الاستراتيجى بالحفاظ على القلب.. الحياة من أجل الحب.. أو الحياة بالحب.. أو الحب للحب.
ولقد كان خيال «ماركيز» مذهلاً.. حين زعمَ بطل روايته.. أنَّ السفينة التى باتتْ تضُمُّه أخيراً.. وبعد عقود من الضياع مع حبيبته.. يوجد عليها وباء الكوليرا.. وذلك حتى لا ترسو السفينة فى مكان، أو أن يستقبلها ميناء.. وحتى لا تنتهى الرحلة، أو ينقطع الطريق. بينما الحبيبان اللذان خسِرا طوال نصف القرن تاريخاً كبيراً من الحب.. ذهبا يغرفان ما استطاعا من «فلسفة الحب». كان لقاؤهما على السفينة أشبه بـ«موجز تاريخ الحب».. وكانت شائعة الكوليرا هى الحامية لذلك الموجز النهائى لقصة حب.. فشلت كحياة ونجحت كذكرى!
(2)
عند البحر الأحمر.. وفى اليمن -الذى كان سعيداً- لا وقت للحب.. إنها الحرب فى كل مكان.. وهى الكوليرا التى أحالت مليون يمنى إلى أشباح فى المنازل والمصحّات.
إنها «الحرب فى زمن الكوليرا».
(3)
لستُ راغباً فى الخوض فى السياسة.. ولا الغوص فى البحث والتحليل.. أو الشرح والتوضيح. لقد زُرت اليمن والتقيت ساسة من كل اتجاه.. ولى أصدقاء من ذلك البلد الجريح.. رؤساء ووزراء وسفراء.. ولى أيضاً أصدقاء.. بسطاء وفقراء ومرضى.
ولقد سمعتُ من الجميع ضدّ الجميع.. وأتابع بالطبع كثيراً مما يُروى ويُكتب.. وسمعت شروحاً من خبراء أمميين وشخصيات عملت ما بين اليمن والعالم.
لا أريد أن أعرض شيئاً مما سمعت وقرأت.. فكل ما أعرف وكل ما يعرفه الجميع.. لا قيمة له، ولا عائد منه.. إنها قراءةٌ لا تنفع، وعلمٌ لا يفيد.
(4)
إن ما يجرى فى اليمن يستدعى تجاوز «السياسة» إلى «الإنسان».. تجاوز السفسطة والثرثرة، وابتلاع التحليلات والمناظرات.. لأجل الوقوف عند البديهيات.. عند جوهر الإنسان.. عند «الروح» و«الجسد».. تلك الأرواح التى تُزهق بغير حساب.. وتلك الأجساد الجريحة المريضة البائسة.. بغير حدود.
أصبح اليمن وطن اللامعنى.. إعصار الموت بات يعبث فى المكان وفى الزمان.. ثمّة مليون ممن يعانون الكوليرا.. وتسعة عشر مليوناً لا يجدون الغذاء.. عشرون مليوناً بين الجوع واليأس.. وفى كل لحظة يخرج الآلاف من الأحياء من مثوى العناء والشقاء.. إلى مثواهم الأخير!
(5)
لقد سئمتُ الساسة والسياسة.. المناظرات والمحاورات، تقارير الأمم المتحدة والتقارير المضادة.. ما تقوله هذه القناة وما تقوله القناة الأخرى.. ما ينشره هذا الموقع وما تبثه تلك المنصة.
لا أريد الخوض -هنا- فى علم السياسة.. أريد الاكتفاء بـ«علم الحياة».. «علم البقاء».. «علم الإنسان».
لا نطمح أن يعود اليمن سعيداً.. بل أقصى الطموح أن يكون اليمن أقلَّ حزناً. لا وطنَ فى زمن الكوليرا.. لا حبَّ فى زمن الكوليرا.. ولا حياة.
الحب فى زمن الكوليرا خيال.. والحرب فى زمن الكوليرا جنون!
حفظ الله الجيش.. حفظ الله مصر..