عندما أعلن وزير الداخلية الفرنسى جيرار كولومب، فى أغسطس الماضى، أن «قرابة ثُلث الأشخاص الذين يوصفون بالتطرف يواجهون مشاكل نفسية»، قوبل تصريحه بعاصفة من النقد من قبل علماء النفس والطب النفسى من جهة، ومن قبل المجتمع الفرنسى من جهة أخرى، فقد استنكر العديد من المتخصصين فكرة استخدام الفحوصات النفسية لمحاولة التعرف على الإرهابيين أو التنبؤ بهم، فنجد على سبيل المثال تعليق فيذى بنسلاما، وهو محلل نفسى وأستاذ فى جامعة باريس ديديروت، بأن وجود تاريخ من المشكلات النفسية أو العقلية للفرد لا يصح أن يتم استخدامه كمنبئ أو إطار يفسر سبب ارتكاب شخص لعمل إرهابى، وعلى الرغم من إمكانية وجود حالات من هذا القبيل، فإنها تمثل «أقلية» من المرضى، ولا يصح أن يتم التعامل معها بوصفها قاعدة عامة نستند إليها عند التصدى للإرهاب. ورفع العديد من المحللين شعار «الإرهابيون ليسوا مرضى عقليين»، استناداً إلى أنه إذا قام كل من يمر بتجربة اضطراب نفسى أو مرض عقلى بعمل إرهابى فمن المفترض هنا أن يكون لدينا مئات الآلاف من الإرهابيين، هذا بالإضافة إلى ما يمثله هذا التفسير من خطورة نظراً لوصمه للمرضى العقليين والتوابع الاجتماعية والإنسانية لهذا الوصم.
وبالنظر إلى ما أثارته العناوين التى تصدرت بعض الصحف والتى وصفت القائم بطعن رجل دين مسيحى بأنه «معتوه» أو «مريض نفسياً» من عاصفة غضب اجتاحت مواقع التواصل الاجتماعى، التى رفضت هذا الوصف؛ خوفاً من أن يكون ذريعة لهروب مرتكب الجريمة من العقاب، أو وصفاً يقاس عليه فيما بعد حال وقوع حوادث مماثلة، يثار هنا تساؤل مهم مؤداه: هل يصح وصف الإرهابى بأنه شخص «مريض نفسياً»، وما العلاقة بين الإرهاب والمرض النفسى والعقلى؟
تشكل الإجابة عن هذا التساؤل معضلة كبرى، فالتعامل مع الإرهابى بوصفه مريضاً عقلياً لا شك فى أنه سينفى عنه المسئولية عما يرتكبه من جرائم كونه فرداً غير واعٍ بما يقوم به من سلوكيات، وبالتالى سيتم إيداعه بمؤسسة علاج نفسى بدلاً من أن يحاكَم ويودع السجن، بالإضافة إلى ما تنطوى عليه تعريفات الإرهاب والتى يعد «الاستهداف الواعى والمقصود للمدنيين» أحد أهم أركانها، ويتزايد تعقد وتشابك الموقف عند تتبع آراء علماء النفس فى هذا الصدد، والتى على الرغم من أنها لم تتفق حتى الآن على أبعاد محددة وواضحة لطبيعة العلاقة بين الإرهاب والمرض النفسى فإنها رفضت الربط المطلق بين الاثنين، بل إن اللجنة التى شكلت لدراسة الأسس النفسية للإرهاب فى إطار القمة الدولية المنعقدة فى هذا الصدد بمدريد فى مارس 2005 أقرت بأن: «البحث فى علم الأمراض النفسية الفردية لفهم سبب انخراط بعض الناس فى الإرهاب عملية محكوم عليها بالفشل المحتوم»، بل إنهم أقروا أيضاً بأن الأشخاص الإرهابيين هم أشخاص «طبيعيون» نفسياً، واستندوا فى ذلك الادعاء إلى كون «الجماعات والمنظمات الإرهابية تعزل من بين صفوفها الأشخاص الذين يعانون من اضطرابات عاطفية أو عقلية، نظراً لما يمثلونه من خطورة على أمن تلك التنظيمات».
واستكمالاً لما سبق نجد أن التقرير الذى أطلقه «مجلس العموم البريطانى» عقب وقوع أربعة تفجيرات انتحارية متتابعة فى لندن فى 7 يوليو 2005 أشار نصاً إلى أن: «ما نعرفه عن المتطرفين السابقين فى المملكة المتحدة يظهر عدم وجود سمات مشتركة نمطية ثابتة تجمع بينهم يمكن الاعتماد عليها للمساعدة فى تحديد الأفراد الأكثر استعداداً للانخراط فى أنشطة وتنظيمات إرهابية»، بل إن عالم النفس الشهير آريل ميرارى، الذى قام بجهد كبير فى محاولة تحليل السمات المشتركة لشخصيات الإرهابيين، قرر أنه «لم يتم العثور حتى الآن على تركيبة نمطية موحدة لشخصية الإرهابى»، هذا بالإضافة إلى ما أظهره استطلاع الرأى الذى أجراه مجموعة من الباحثين والذى تم التوصل من خلاله إلى أنه من بين 55 هجوماً فى الغرب تورط فيها نحو 76 شخصاً منتمين لتنظيم «داعش» فإن 27.6٪ منهم كان لديهم تاريخ من عدم الاستقرار النفسى الظاهر، وهى نسبة مماثلة لتلك التى توجد لدى العامة.
ولا شك فى أن التبسيط الذى يتضمنه الربط بين الإرهاب والمرض النفسى يوازى التبسيط الزائد الذى يتم ترويجه للربط بين الإرهاب والفقر، أو الإرهاب والدين، أو الإرهاب والعمر، إلخ، والحقيقة أن الإرهاب ظاهرة شديدة التشابك والتعقيد، فعلى الرغم من وجود مؤشرات ودلائل تشير إلى زيادة انتشار الأمراض النفسية بين الإرهابيين، مثل دراسة أنطون وينينك التى أجراها على عينة من 140 فرداً هولندياً من المصابين باضطرابات نفسية مختلفة واستند فيها إلى ملفات الشرطة، وتوصل إلى أن 6% منهم انغمسوا فيما بعد فى أنشطة إرهابية، وهى نسبة أعلى من مثيلتها لدى مجمل السكان، والتى من المفترض أن تتراوح بين 0.87% و1%، إلا أنها ما زالت غير كافية، حيث إن وصف الإرهاب بأنه «مرض نفسى» ينطوى على مغالطة واختزال كبير لمجموعة من العوامل المتشابكة التى تنتج الشخصية الإرهابية.
وفى النهاية، يجب أن نكون حذرين عند محاولة الربط بين الإرهاب وبين أى عامل شخصى أو اجتماعى آخر، حتى لا ندخل إلى «دائرة اللهب» التى تنتج لنا أفراداً موصومين دون أساس، فيصبح كل من الفقير، والمسلم، والمريض النفسى، مشروع إرهابى، فالنظر إلى الإرهابى يجب أن يتم على أساس فردى، وليس فى إطار جمعى، انطلاقاً من أن التعميم فى هذا الإطار يعد بمثابة «فخ» يستتبعه نتائج كارثية، ما زال يعانى المجتمع الإسلامى ويلاتها منذ إطلاق مفهوم «الإرهاب الإسلامى» والترويج له كذريعة للحرب على الإرهاب التى أنتجت بدورها حروباً دينية وطائفية، وإذا كان الفهم هو بداية الطريق نحو المعالجة، فإن فهم الإرهاب يجب أن يتم استناداً إلى ما يمثله من مكونات وعوامل متشابكة يصعب تفسيرها استناداً إلى عامل وحيد، وهو المرض النفسى، ومن هنا «يجب ألّا يكون الإرهابى مريضاً نفسياً».