المصابون: الرصاص حاصرنا من كل مكان والقرية كلها أبيدت وأطفالها «اتيتموا»
مصاب يتلقى العلاج داخل مستشفى «الإسماعيلية»
داخل واحدة من غرف قسم الجراحة بمستشفى الإسماعيلية العام، جلس سليم سليم، فى منتصف عقده الرابع، واضعاً رأسه بين يديه، ينظر أسفل قدميه فى محاولة لتخفيف هول الصدمة، ما أصاب شقيقه الثلاثينى «حسين»، الملقى على السرير بجواره، وقد غطى الدم عباءته البيضاء، بعد أن قضى نحو 24 ساعة داخل المستشفى، فى انتظار إجراء عملية جراحية لا يعلم لها موعداً من كثرة المصابين، فى حادث مسجد الروضة الإرهابى، الذى استهدف فيه عدد من الإرهابيين مصلين داخل المسجد أثناء صلاة الجمعة بمدينة الروضة شمال سيناء.
«دخلت الجامع ويا دوب بعد ما الإمام طلع على المنبر لقينا ضرب النار اشتغل من كل حتة»، يقولها «حسين» بصوت منخفض أخرجه بصعوبة، يواصل: «مسجد الروضة كبير وليه 4 أبواب، ولما بدأ ضرب النار الأبواب الأربعة دى كان عليها مسلحين بيضربوا علينا بشكل عشوائى»، دقائق معدودة مرت على «حسين» لا يدرى فيها ماذا يفعل، فهناك العشرات من المصابين والقتلى سقطوا بجواره، وحالة من الهلع أصابت الجميع، جعلته لا يتمكن من تمييز هؤلاء المسلحين الواقفين على أبواب المسجد: «أغلبهم كانوا ملثمين على حسب ما لحقت أشوف».
طريق الهرب من هذه «المذبحة» كان هو كل ما شغل تفكير «حسين»: «الناس كانت بتحاول تخرج من أى مكان، وفيه ناس دخلت استخبت فى دورات المياه، وناس تانية نطت من الشبابيك، وأنا كنت واحد منهم»، قرب «حسين» من أحد شبابيك المسجد جعله يشعر بأن النجاة مما هو فيه لن تكون إلا بالقفز منه إلى الخارج، إلا أن الرياح لم تأت بما اشتهته نفسه: «كانوا بيشوفوا اللى بيهرب من الشبابيك ويضربوا عليه نار، وأول ما خرجت ده اللى حصل معايا».
«حسين» تلقى طلقة فى الكتف وأخرى فى القدم: «اللى كان بيهرب من الشباك كانوا بيضربوه بالنار».. و«أحمد»: «ماحستش بنفسى وافتكرت إنى مُت خلاص.. وربنا هو اللى نجانى».. و«عيد» استُشهد أبوه وأخوه وعمه وابن عمه
طلقة فى القدم اليسرى، تبعتها طلقة أخرى فى الكتف اليمنى تلقاهما «حسين»، بمجرد أن وطئت قدماه أرض الشارع، فما كان منه إلا أن ألقى بجسده على الأرض مجبراً، ليغيب عن المشهد بشكل مؤقت: «مادرتش بنفسى بعد كده غير وأنا فى مستشفى بير العبد، ومن هناك جيت على الإسماعيلية هنا، بس لسة الرصاصة فى جسمى لحد دلوقتى، والدكتور بيقول ممكن مانخرجهاش».
مشهد «الدم» داخل «مسجد الروضة» شهده كثير من المصابين الذين نجوا بأعجوبة، وكان من بينهم أيضاً الخمسينى أحمد عبدالحى، أحد المصابين داخل مستشفى الإسماعيلية العام: «أنا حاسس إنى فى غيبوبة من ساعة ما دخلت الجامع لحد دلوقتى»، هكذا قال «أحمد»، وهو ما زال يقلب عينيه بين الحائط وبين قدمه المصابة بطلق نارى، ليحكى عن مشهد لم يتذكر منه الكثير، قائلاً: «معرفش ضرب النار بدأ إمتى وإزاى، بس كل اللى فاكره إن الناس كلها كانت بتجرى وتتكفى على وشها قدامى».
كان الشباك هو وسيلة «أحمد» أيضاً للخروج من المسجد: «لحد ما نطيت من الشباك كنت سليم، وأول ما نزلت على الأرض فضلت أجرى مع الناس ومش عارف أنا رايح فين، بس كان فيه ضرب علينا من ضهرنا بشكل عشوائى وكل شوية يقع واحد بيجرى جنبى»، طلقة طائشة أصابت قدم «أحمد» اليسرى سقط أرضاً على أثرها: «وقتها ماحستش بنفسى وافتكرت إنى مُت خلاص، بس اللى أقدر أقوله إن ربنا هو اللى نجانى، معرفش إزاى»، أثناء حديث «أحمد» فتحت الستارة الفاصلة، ليدخل من خلفها أحد أبنائه، يعبر عما فى داخله بنبرة غاضبة، قائلاً: «القرية كلها اتبادت واتيتم أطفالها، وكده كده صوتنا فى الآخر مش هيوصل، وهيعدى سنين على الحادثة ومش هيذكروا حد من اللى استشهد فيها، وابقى افتكر كلامى ده كويس، وإحنا فى الآخر وهبنا شهداءنا لله ومش عايزين من حد حاجة».
وداخل إحدى غرف الجراحة بالمستشفى، كان الطفل عيد سليم، فى أواخر عقده الثانى، ملقى على سرير التف حوله مجموعة من أهله، منهم من كان حاضراً، ومنهم من لم يحضر، يحكى أحدهم، رفض ذكر اسمه، قائلاً: «عيد اللى قدامك ده مات أبوه وأخوه وعمه وابن عمه، ولحد دلوقتى مش عارفين نقوله إزاى»، مشهد خروج «عيد» من المسجد ومن ثم إصابته لم يختلف كثيراً عن روايات غيره، إلا أن الصدمة الكبرى بالنسبة له، حسب ما قال قريبه، أن أسرته لم يعد لها غيره، وأن والدته فى البيت حائرة بين دفن والده وشقيقه وبين انتظار عودته سالماً لها. وعلى سرير بقسم الطوارئ جلس سالم محمد، صاحب الـ60 عاماً، معلناً ثقته فى الرد العنيف من القوات المسلحة على ما حدث، قائلاً: «الجيش لن ينتقم فقط لأرواح أبنائه من أهالى سيناء، ولكنه سيثأر أيضاً لبيت الله، ولدين الله، خاصة أن عقيدته هى: الله، الوطن، الواجب»، يتذكر «سالم» ما جرى: «فوجئنا بالجماعات الإرهابية تقتحم نوافذ المسجد بالسلاح الآلى، وتطلق نيرانها، قبل أن يدخلوا المسجد من الأبواب المختلفة، سقط الكثير من المصابين، وانهالوا علينا ضرباً بالرشاشات فى دفعات سريعة ومتتالية، كنت أحاول فعل شىء لكنى لم أستطع فى مواجهة وابل الرصاص.