قبلت فى ذلك اليوم لأول مرة أن أذهب عرس إحدى قريباتى، اندهشت والدتى حين وجدتنى متحمسة فقد اعتادت منى منذ أن بلغت السابعة عشر ألا أحضر تلك المناسبات، مما جعلهم بالعائلة قد اعتادوا غيابى ولم يعتادوا لتوجيه أى دعوة لى، ربما أيضا تناسب ذلك مع ميولهم ورغباتهم، فمظهرى منذ أن تضاعف وزنى دون أى مقدمات لم يكن ليتناسب مع مظهر جميلات العائلة الحريصات على رشاقتهن، فبالطبع دخولى معهم بكادر أى صورة فوتوغرافية كفيل بإفساد ما عكفن على تحضيره.
دخلت تلك القاعة الفاخرة محتضنة يد أمى، مختبئة وراء ظلها فى محاولة منى لتجنب نظرات الحضور الفاحصة لى ولثيابى، شعرت لوهلة أن الدم قد تجمع برأسى وأبى أن يكمل دورته بجسدى ثم بدأ العرق يتصبب فوق جبينى، تنفست الصعداء حين وصلت لطاولتنا ووجدتها تقع بركن فى آخر القاعة، اخترت مقعدا أقصى يمين الطاولة وذهبت لأجلس حين انشغلت أمى فى الترحيب بالمدعوين ولكن ما توقعته حدث، لم يكن الكرسى الواحد كاف، ازداد وجهى احمراراً حين قربت خالتى لى كرسيين لأجلس عليهم سويا، شعرت بالندم على حضورى، وبدأت أفكر فى الانسحاب، ولكن ما صبرنى أنه فور دخول العروسان سوف تخفف الإضاءة وتتجه أعين الجميع نحو شاشات العرض ليشاهدوا مراسم العرس، وبالفعل دخلت العروس.
كانت نادين ابنة خالى، كم طالت قامتها، كم أصبحت جميلة، لم أرها منذ عدة أعوام، فهى تعيش بالخليج، حيث يعمل والدها، ولم تكن الظروف تسمح بالتزاور فى الأعوام الماضية، أتذكر جيدا يوم ميلادها كدت أطير من الفرحة حين سألنى خالى ونحن بالمشفى ما رأيك، ماذا نسمى المولودة؟.. على الفور قلت: نادين، حيث كان اسم صديقتى بالمدرسة، وبالفعل أصبح اسم أجمل قريباتي.
ولم أشعر بالأسف على حالى كون فتاة تصغرنى بعشرة أعوام تزف وأنا أجلس منطوية أستخفى من مظهرى فقد اعتدت هذا الموقف كثيرا غير أنى سابقا انعزلت بمنزلى متجنبة نظرات الشفقة أو السخرية.
ظللت أتابع مراسم الاحتفال مستمتعة بالموسيقى واثقة أن نادين من اختارتها، حتى توقفت الموسيقى وخرج المشهد عن السياق التقليدى للأعراس، فوجدت نادين تعتلى منصة وضعت بمنتصف القاعة ثم أخذت الميكروفون وبدأت تشكر الموجودين على الحضور وتحكى قصة تعارفها بعريسها، ثم أخذ هو دوره وبعده والدته، ثم والد نادين، لم أعرف كيف قادتنى قدماى إلى تلك المنصة، وجدت نفسى أتوجه لا إراديا نحوهم، عانقت العروس وعانقتنى بشدة، طلبت منها أن أتحدث، وكان خطابى كالآتي: حبيبتى نادين تعرفين جيدا كم أنتى غالية عندي.. غالية لدرجة أنى كسرت عزلتى من أجل أن أرى مدللتى الصغيرة تزف لزوجها، عائلتى الحبيبة أفتقد جدا ذلك التجمع البهيج، افتقدكم جميعا، أرجو منكم أن تفهمونى جيدا فأنا اﻵن أكملت الثالثة والثلاثون، وقد سئمت العزلة والانطواء، أود أن أخبركم أن بحياتى الكثير من التحديات، بل حياتى هى مجموعة من التحديات فصعودى درج المنزل بحد ذاته تحد، وركوب المواصلات وتحمل سخافات القاصى والدانى تحد، وكظم غيظى عنهم جميعا تحد، وحتى هرولتى نحو الطعام عندما يلفظنى الجميع هو تحد، تحد لنفسى كى لا أتلوث مثلهم، كى احتفظ بسريرتى النقية، لم أكن مضطرة لإخباركم كم مرة ذهبت لأطباء، كم مرة اتبعت حمية غذائية، كم مرة تألمت كى ترضوا عنى ويرضى المجتمع.
ما أريد إخباركم به اليوم أنى أتمتع بحاسة سمع جيدة تجعلنى أميز آيات القرآن التى تتلونها حين تصادفنى إحداكن مع زوجها، وأيضا لدى أيضا عينين سليمتين تسمح لى أن أراكن حين تغمزن لأطفالكن كى يذهبن من أمامى، أريد فقط أن تفهموا أن بداخلى وجع كبير يكفينى أن انشغل به عن حسدكم وتمنى زوال نعمكم.. فالمتأخرة فى الزواج ليست حسودة، أو ناقمة، بل هى إنسانة فاقدة للسكينة مستوحشة الحياة بمفردها، فالحب هو تطور طبيعى لمشاعر الإنسان والألفة والسكن لشريك الحياة هو احتياج أساسى لبنو البشر، فأرجوكم كفوا عن مضاعفة ألمى، عائلتى الحبيبة أحبكم جميعا، ولا أعلم من أين استحضرت تلك الشجاعة.
تسمرت قليلا مكانى حين شعرت أنى أفسدت الزفاف، ولكن رد فعلهم لم يكن متوقع ففجأة وجدت الجميع كبارا وصغارا رجالا ونساءً، عائلتى بأكملها متجهه نحوى، يتهافتون على معانقتى منهن من تقبلنى وتبكى ومنهم من يقسم أنى أفهمهم خطأ، وجميعهم التفوا حولى، ثم أمسكت نادين يدى حتى نرقص سويا، لا أعلم إذا كان ما حدث هو رد فعل لشعورهم بالندم، أم كنت بالفعل مخطئة فى الحكم عليهم، ولكن ما خلصت به من ذلك اليوم أن مواجهة مخاوفى أفضل بكثير من الهروب منها.