فى مطلع النصف الثانى من الثمانينات شاركت فى مؤتمر دولى للشباب بيوغسلافيا قبل تفككها، وفى إحدى الندوات سألت خبيراً فى شئون دول عدم الانحياز «هل نستطيع اتخاذ قرار بين دول المجموعة بالتوقف عن شراء مشروب كوكاكولا أو بيبسى لمدة يوم واحد؟»، أجابنى بأن «مثل هذا القرار يحتاج إرادة جماعية غير متوفرة لدى الدول الأعضاء ولا تراهن عليه».
وبناء عليه فإنه من دون تفكير وفى ذات السياق فإن ردود الفعل الشعبية على قرار رئيس الولايات المتحدة ترامب سوف تسبق وتتفوق على ردود الفعل الرسمية فى إظهار رفض فعلى وغضب شعبى يقضى تماماً على أى أثر للاعتراف الأمريكى بالقدس عاصمة لإسرائيل.
عندنا فى مصر تجربة حية وواقعية على تأثير المواقف الشعبية حين وقع الرئيس الراحل أنور السادات معاهدة السلام مع إسرائيل عام 1979 وما تضمنته من اتفاقات عن تطبيع العلاقات بين البلدين، وهو تطبيع ما زال يبحث بعد 38 عاماً عن سبيل للتطبيق بسبب الرفض الشعبى.
لمن لا يعرف فإن الموقف الشعبى الجاد هو الأجدر بالاهتمام والتعامل معه، فإسرائيل ما زالت تشكو حتى الآن مما تسميه السلام البارد مع مصر رغم مرور كل هذا الزمن واعتقادى أن محلليها وخبراءها يتعاملون بكل يقين مع كونه «سلاماً مؤقتاً» وليس «سلاماً بارداً» بسبب الموقف الشعبى والرهان الدائم عليه كونه متحرراً من كل قيود والتزامات سوى الضمير وما يقرره.
المشهد العربى الرسمى الحالى ليس بائساً وإنما مُفرط فى البؤس بعد أن وضعت الكتل الأهم والأغنى فى الإقليم أمنها القومى فى سلة الترسانة الأمريكية - الإسرائيلية، فأصبح قرارها السياسى مُكبلاً بالتزامات ذات صلة بضمانات تطلبها هى لحماية نظامها.
قرار القدس عاصمة لإسرائيل يماثل فى أهميته قرار إعلان دولة إسرائيل والتقسيم، وهو يبلور نتائج حرب يونيو 67 وتداعياتها فى السيطرة الفعلية على الأرض المحتلة، رغم القرارات الدولية ثم توسيع نطاقها بالضم الفعلى والاعتراف من القوى الأكبر.
الحقيقة أشعر بالأسى والحزن لوزراء الخارجية العرب الذين وعبر التاريخ ما أن يستقروا فى أوطانهم إلا وغادروها فوراً وعادوا أدراجهم للقاهرة لعقد اجتماع طارئ لمناقشة الموقف الإيرانى أو اليمنى أو الفلسطينى أو الليبى أو السورى أو العراقى، وخلافه من ملفات الأزمات العربية التى لا تنتهى.
الحق أن القادة العرب فشلوا فشلاً ذريعاً فى تحديد استراتيجية وأهداف ورسم وسائل لحماية مصالح الإقليم بعد تفضيل أجندات مصالحهم على أوطانهم فكانت النتيجة هذه الصورة المعقدة من الاشتباكات والتداخل فى أدوات ووسائل إدارة الصراع بكل تفاصيله.
إن لم يتمكن القادة العرب من الإمساك بخيوط اللحظة وإدراك خطورة الأمر على أمنهم وأمانهم الشخصى وتعاملوا بنفس مستوى جدية الموقف الشعبى، فاعلم أننا نعيد دورة التاريخ مرة أخرى ونكرر ما جرى فى عام 1948 وأننا لا نتعلم من دروس التاريخ.
لا يجوز الدعوة للانتحار كما لا يجوز الدعوة للترقب والانتظار، إنما على الأقل الإقدام على تحركات تتيح إحاطة القرار الأمريكى بقيود تجعل من تداعياته فى الحد الأدنى قراراً ورقياً بين الدولتين، وكما أن هناك قيوداً دولية على القرار العربى فهناك أوراق وأدوات ضغط عربية ما زالت موجودة وقادرة على التأثير يجب استخدامها وفوراً.
السؤال الآن: هل سنرسم مشهداً جديداً أم نكرر المشاهد القديمة؟