لم يكن قرار الرئيس الأمريكى «ترامب» هو مجرد بالونة اختبار، بل كان قراراً حاسماً ونهائياً، فالظروف مهيأة، والوضع العربى فى أسوأ أحواله، ومخطط التفتيت والفوضى ماضٍ إلى حال سبيله، وكان آخر تداعياته مقتل على عبدالله صالح وسيطرة الحوثيين على العاصمة اليمنية صنعاء.
كان «ترامب» يدرك منذ البداية أن ردود الفعل العربية والإسلامية لن تخرج عن بيانات شجب واستنكار وإدانة، فالإرادة السياسية لا تزال غائبة، والفعل القوى لم يعد له مكان، والأحداث التراكمية التى شهدتها المنطقة خلال السنوات السبع الماضية أنهكت الشعوب، ونالت من عزيمتها، بعد أن تراجعت أولوياتها القومية.
لم يكن قرار الرئيس الأمريكى جديداً أو مفاجئاً، لقد أعلن ذلك بكل صراحة ووضوح خلال حملته الانتخابية، ولم يكن هناك أى رد عربى فى المقابل، بل حمل الكثيرون كلامه على أنه نوع من الدعاية لكسب أصوات اللوبى اليهودى فى أمريكا، وأن «ترامب» سيتردد كثيراً أمام تنفيذه على أرض الواقع. وعندما قرر «ترامب» تفعيل وعده الانتخابى، وإبلاغ القادة العرب بقراره قبيل إصداره بساعات، كان يعرف أنهم سيرفضون ويحذرون، ولكنه كان يدرك فى المقابل أن أحداً منهم لن يستطيع أن يهدد المصالح الأمريكية فى المنطقة، وأنه يعرف حجم وأبعاد ردود فعلهم التى لن تخرج عن كلمات هنا وبيانات هناك.
صحيح أنه لم يكن يتوقع حجم ردود الفعل الدولية، والأوروبية منها تحديداً، إلا أن إدارته بدأت فى ممارسة ضغوطها على هذه البلدان بقصد إجبارها على الصمت أو التراجع. أما الكيان الصهيونى فهو ماضٍ فى مخططه، وراح على الفور يرفع أعلام إسرائيل والولايات المتحدة على كافة أرجاء القدس وأسوار المسجد الأقصى فى تحدٍّ واضح وصريح للشعب الفلسطينى والأمتين العربية والإسلامية. إن أخطر ما تضمنه خطاب رئيس الوزراء الإسرائيلى «بنيامين نتنياهو» معلقاً على القرار الأمريكى هو تهديد الجانب الفلسطينى بأن إسرائيل لن تعترف بعملية السلام فى حال عدم اعترافهم بالقدس عاصمة لها، مما يعطى مؤشراً واضحاً على أن «إسرائيل» قررت هى، قبل الآخرين، دفن عملية «التسوية السياسية» وإغلاق الملف لحين اعتراف السلطة الفلسطينية بالقدس عاصمة للكيان الصهيونى.
لقد اجتمع وزراء الخارجية العرب، أمس الأول السبت، لبحث تداعيات القرار الأمريكى والسبل الكفيلة لمواجهته، وبعد ساعات طوال من الحديث والجدل، والبكائيات اللفظية، خرج بيان من الجامعة، يشجب ويندد، ويتحدث عن تعارض القرار الأمريكى مع القرارات الدولية ذات الصلة، ثم يدعو إلى قمة عربية استثنائية تُعقد فى عمان، دون تحديد موعد لها، أو حديث عن توصيات مسبقة يصدرها المجلس، مما أصاب الجماهير العربية والفلسطينية بحالة من الإحباط الشديد.
كنا نتوقع أن يُصدر مجلس الجامعة توصيات تتوازى مع خطورة الحدث، وتبعث برسالة قوية إلى الولايات المتحدة الأمريكية، من عينة:
- التوصية برفض استقبال نائب الرئيس الأمريكى الذى سيزور المنطقة خلال الأيام القليلة المقبلة فى زيارة هدفها تطييب الخواطر، خاصة أن الإمام الأكبر د. أحمد الطيب، شيخ الأزهر، رفض طلباً مقدماً من السفارة الأمريكية للاجتماع بنائب الرئيس الأمريكى، وكذلك فعل قداسة البابا تواضروس الثانى.
- كان الناس يتمنون على اجتماع وزراء الخارجية العرب أن يُصدر توصيات ببحث اتخاذ القرارات الفاعلة ضد السياسة الأمريكية، ومنها استدعاء السفراء العرب من واشنطن للتشاور -على الأقل- وذلك حتى يدرك المجتمع الأمريكى مدى خطورة قرار «ترامب» على المصالح الأمريكية مع العرب.
- وكنا نتمنى أيضاً استدعاء سفرائنا وممثلى البعثات العربية من تل أبيب، وهو أمر ليس بجديد، وقد حدث قبل ذلك نتيجة وقائع أقل جرماً من هذا القرار وتداعياته، ولكن أحداً لم يتطرق إلى ذلك، وكأننا اكتفينا بالعبارات التى تضمّنها البيان، والتى لن يكون لها رد فعل إيجابى لدى الدوائر المعنية.
إن من يقرأ بيان وزراء الخارجية العرب يعجب بحلو الكلام، وجمال العبارات، وحدّة الكلمات، ولكن يبقى الأمر فى النهاية على ما هو عليه، ليضفى مزيداً من الإحباط على مشاعر الشارع العربى، وليؤكد مجدداً حالة العجز التى نالت من عزيمتنا وإرادتنا.
إن الأنظمة وحدها لا تستطيع أن تتصدى للعجرفة الأمريكية- الصهيونية، دون أن تكون هناك آليات شعبية تساعد على ذلك، لكن الغريب أن الآليات الشعبية بدت معطلة بإرادتها، وكأنها غير معنية بالأحداث التى تشهدها البلاد والأمة.
هل يُعقل مثلاً ألا يعقد البرلمان المصرى اجتماعاً طارئاً لبحث هذه القضية الخطيرة، فيكون سنداً للنظام فى دعم مواقفه، ودفعه لاتخاذ خطوات أشد، ويكون أيضاً سنداً لنفسه ولنوابه أمام الجماهير الشعبية التى راحت تعايرهم بمواقف برلمانات أخرى انعقدت على الفور وناقشت الموقف، وبعثت برسائل واضحة إلى الإدارة الأمريكية، وكان فى مقدمة ذلك البرلمان الأردنى، والبرلمان التونسى، واليوم سيجتمع على أرض القاهرة البرلمان العربى.
إن سياسة «الطناش» التى تتبعها المنظمات الشعبية والبرلمانية والنقابية إزاء أحداث بهذه الخطورة لن تزيد الشارع العربى إلا احتقاناً وسخطاً، وهو أمر يجب حسبانه جيداً، لأن أمريكا وإسرائيل من مصلحتهما استكمال حلقات الربيع «العبرى» باتخاذ هذا الحدث مدخلاً جديداً لإسقاط الدولة الوطنية فى العالم العربى، عن طريق دفع الجماهير إلى الفوضى التى تدفع إلى انهيارات جديدة فى ساحتنا العربية تؤدى بما تبقى إلى مصير العراق وسوريا وليبيا واليمن، وهو عين المراد!!
إن الأيام المقبلة خطيرة، فأمريكا ماضية فى مخططها، وإسرائيل ستبدأ إجراءاتها العملية لتفعيل القرار، وإذا ما مضت الأمور كما يراد لها فسوف يصب الشارع العربى جام غضبه على الجميع، مما سيزيد من حدة العنف والإرهاب التى سوف يدفع ثمنها الجميع بلا جدال.