كما أن لثورة الاتصالات ميزاتها، وقد ذلّلت سبُل التواصل واختزلت المسافات بشبكة إنترنت وجهاز محمول، فإن لها نقمات بعد أن تغلغلت فى تفاصيل حياتنا، وانتهكت خصوصياتنا، وأصبحت قيّماً على أفعالنا وتصرفاتنا اللحظية العفوية وأضحت محاكم تفتيش إلكترونية ورقمية منعقدة ليل نهار، مصدرة بذلك أحكاماً أبديّة قد تُلغى تاريخاً مشرفاً بأكمله. وجعلت الإنسان فريسة لنيران صديقة بعيدة وقريبة، عميقة ومباغتة وفتّاكة؛ ناهيك عن تَصدُّر الجاهلين، أصحاب الفِكر السطحى والجوهرِ الهزيل، المشهد، وينضمّ إلى قافلتهم ناقلو الكلمات والعبارات والصور وإعادة الإرسال دون تأنٍّ أو تحقّق أو تثبّت، و«شوفوا كان متصور مع مين وكان بيقول إيه وكان فين!!».
ما دفعنى إلى الكتابة هى تلك الحروب الإعلامية الشعواء المبنية على ادعاءات وإشاعات لا أصل لها ولا منطق، ومصادرها غير موثوقة وبياناتها مغلوطة ومنقوصة، تنطلق من منصات البثّ العشوائى لزلّات اللسان لشخصيات عامة وعادية فى مواقف المفروض أنها جزء من طبيعتهم البشرية العفوية، ليجدوا أنفسهم فجأة فى مرمى الاتهامات الزائفة والبهتان، وإليكم مشهدين من عشرات الشواهد التى يحترق بجمرها أناس مثلنا ومثلكم لا ناقة لهم ولا جمل.
المشهد الأول: عضو هيئة تدريس يشارك بالحضور فى مناسبة اجتماعية مع رئيس القسم أو عميد الكلية، وقد كانَ الأخير قيمة وقامة آنذاك، ولم تَطَله بعد تهم الفساد أو غيرها، اليوم وقد وقع صاحبنا فريسة تلك الاتهامات التى لا يمكن الجزم بصحتها من عدمه، يجد عضو هيئة التدريس نفسه «متّهماً بالمعيّة»، ومن حوله يجتهدون فى إقامة قاسم جنائى مشترك بينه وبين المتهم، وتحين اللحظة الحاسمة ليدفع ثمن صورة لا يعلم توجهات من يقف بجانبه أو خلفه فى نفس الصورة أو وجود عابر أو علاقة عادية، وهنا تتهاوى كلّ مقاييس العدل ويغيب الدليل والشاهد فى دفّة زلة لسان أو صورة عابرة.
وفى المشهد الثانى تكمن القنبلة الموقفية الموقوتة، حين يشارك أحدهم برأيه فى قضية ما على إحدى منصات التواصل الاجتماعى أو الصحف أو القنوات الفضائية فتقع منه زلة لسان، هى خطأ فى التحرير وليس فى التفكير، وهى عدم توفيق فى التعبير وليست سوءاً فى التقدير، آنذاك تسن سيوف اغتياله والتنكيل به، وتبدأ معها رحلة البحث عن عبارات له مجتزأة وصور ملتقطة فى لحظات عابرة ومقالات تُخرج المضمون عن سياقه وتُؤوّله وتضعه فى قوالب أخرى، لتنطلق بعدها أبواق من يصدقون كلّ ما نُشر فى سياقه الجديد وإخراجه المتقنِ المرتبط بلحظة زمنية أو زلة لسانية آنية. أما عن حقّ الدفاع، فهو موءود، وقرار الإدانة محتومٌ ومختوم وغير قابل للاستئناف أو النقض، فقد صادق عليه أصحاب الظنون السيئة يُساندهم أصحاب الجهالة، فالكل مستعدّ لتصويب أسلحته للقتل المعنوى والمهنى والمجتمعى.
وهكذا يشترك خصوم المعرفة، وأعداء الحقيقة، وفقراء القيم، فى اختزال تاريخ من النجاحات فى كلمة أو عبارة أو تعليق أو تصريح أو تغريدة أو زلة لسان عابرة غير مقصودة أو صورة، فتبدأ أسقام الضحية وأوجاعه وآلامه تفتك به، بل يُؤثر العزلة والصمت والانكفاء وانتظار الرحيل إلى العالم الآخر، لعله يجد العدالة الغائبة بين أهل الأرض فى السماء.
كفانا تصيداً واقتناصاً وانتقاصاً وتنقيباً وتفتيشاً وتشهيراً وأحكاماً مسبقة بغير حق فيما نقرأه أو نسمعه أو نشاهده من محتوى إعلامى دون تمحيص وتريث، فالتربص اللغوى والسمعى والبصرى ليس له مقام سوى فى العقول الصغيرة، والسنة الكونية تقضى بأنّ «الأيام دُوَل»، «فتبيّنوا».