لا يجد عقلاء الناس فى بلدنا أسباباً وجيهة تقود هذا الرجل بالذات إلى موقعه الفريد كأحد أكثر المصادر ظهوراً على شاشات الفضائيات، وتمتعاً بالمكانة والنفاذ عبر وسائل الإعلام المختلفة.
تثور أسئلة عديدة فى كل مرة يظهر فيها على الشاشة: من الذى يدعمه ويحميه؟ كيف يمكن السماح له بقول مثل هذه العبارات؟ ألا توجد مراجعة ومحاسبة على ارتكاب هذه الأخطاء؟ ألا تعلم القناة أنه سيتجاوز ويستخدم تلك اللغة المسيئة والألفاظ البذيئة؟ ألا يعلم الإعلامى الذى استضافه أنه سيحول الحلقة إلى شجار مأفون فى حارة عشوائية؟ ألا يعاقب القانون على السب والقذف؟ كيف تمر تلك الاتهامات التى يكيلها إلى أشخاص عموميين، ومشاهير، ومسئولين كبار، بل وقضاة، من دون مساءلة؟
لا تأتى تلك الأسئلة من موقع الاستنكار والاستهجان كما يعتقد البعض، لكنها تأتى من موقع الحيرة؛ إذ لا يعتقد حتى أكثر الناس تشاؤماً، وأقلهم ثقة فى ما تبقى لنا من وعى ورشد، أننا يمكن أن نفرط فى صورتنا، وأدبيات مجالنا العام، والقواعد الحاكمة لعمل وسائل الإعلام التى تدخل بيوتنا، إلى هذه الدرجة المهينة.
يتساءل الناس من موقع الحيرة بكل تأكيد؛ إذ لا يمكن تصور أن يُترَك المجال العام، والممارسات السياسية والاجتماعية المهمة والحيوية، والمحتوى المذاع عبر وسائل الإعلام الجماهيرية، من دون أى درجة من التنظيم أو الحماية، ليصبح المجتمع نهباً للعبث والتلاعب بالقيم والخوض فى الأعراض والتشكيك والتجريح من دون ضابط.
لا يمكن أن يكون تفاقم تلك الظاهرة، واستمرارها، نتاج العبث والسهو والعشوائية، إذ إن أسباباً موضوعية تقف وراءها وتؤمِّن لها الازدهار، فما تلك الأسباب؟
عدالة انتقائية
لدينا دستور جيد، وعدد كبير من القوانين التى تقارب هذه الممارسات المسيئة والمنفلتة بأدوات قانونية، فترسى توصيفات دقيقة للمخالفات والجرائم، وتحدد عقوبات رادعة لها.
لدينا أيضاً سوابق واضحة عن بعض الأشخاص الذين بثوا محتوى أو آراء أو معلومات عبر الوسط الإعلامى أو المجال العام، واعتبرت السلطات المعنية (تنفيذية وقضائية وبرلمانية)، أن ما صدر عنهم مسىء أو متجاوز أو يشكل جريمة، فما كان منها إلا أن فَعَّلَت القوانين، وأخذتهم إلى السجون.
لكن ذلك الدستور الذى ينص بوضوح على تجريم إشاعة الكراهية، والتحريض على العنف، والطعن فى الأعراض، لا يجد من يطبق نصوصه حيال مخالفات هذا الرجل، وأمثاله، الذين يزداد عددهم يوماً بعد يوم.
ورغم أن كثيراً مما يتفوه به هذا المصدر المتكرر ظهوره يطابق دواعى تطبيق العقوبات المنصوص عليها فى عدد كبير من القوانين النافذة، فإن أحداً لا يقدر على مقارعته بالقانون، لأن وسائل كثيرة ذات طابع قانونى تُكرَّس، للأسف، لخدمة مواقفه والذود عنه.
يُسجن كتاب، أو أدباء، أو صحفيون لأسباب ملتبسة، ومن دون ذرائع وجيهة أحياناً، ولمجرد التعبير عن آراء تم تأويلها بشكل معين، لكن العدالة الانتقائية تحرص على حماية تجاوزات المصدر المنفلت، ولا تلتفت إلى ما يرتكبه من جرائم.
إعلام انتهازى
يعتقد البعض أن زملاءنا المعدين والمذيعين والصحفيين لا يعرفون ما الذى سيقوله هذا المصدر تحديداً بشأن الكثير من الموضوعات المطروحة للنقاش، قبل أن يتفوه بكلمة.
ويصدق بعض البسطاء هذا المذيع أو تلك المذيعة، حين تظهر انزعاجاً كبيراً من ألفاظ الضيف المتجاوزة، أو تستحلفه قبل أن يتحدث بألا يتجاوز فى حق أحد، أو حين تدعى أنها تريد «نقاشاً موضوعياً بطريقة هادئة».
إنهم يكذبون للأسف، فهم يعرفون طبيعة كل مصدر، وما الذى يمكن أن يصدر عنه، وأحياناً كثيرة ينصبون له السيرك الذى يستحثه على ممارسة ألعابه البهلوانية الخطيرة.
وبسبب الرغبة الجامحة لدى المذيع أو المذيعة لكى يحصد الرواج والشهرة وتتداول الجماهير فيديوهاته، يأتى هذا الضيف إلى المحطة، وتُدفَع له الأموال للظهور. وبسبب الرغبة الجامحة لدى القائمين على الوسيلة الإعلامية لحصد الأرباح وتدفق عائدات الإعلان، يتحول هذا الضيف المتجاوز المنفلت إلى هدف تتسابق عليه المحطات.
جمهور متواطئ
للأسف الشديد، فإن بعض هؤلاء العقلاء، الذين سبقت الإشارة إليهم فى هذا المقال، والذين لا يكفون عن السؤال حول الأسباب التى تؤمِّن لهذا المصدر المنفلت، وأمثاله، الظهور على الشاشات، وارتكاب تلك المخالفات والجرائم، يُعدون جزءاً من الإجابة.
بعض الذين يستنكرون ظهور الضيوف المنفلتين سبب فى استمرار وجودهم على الشاشات، لأن قطاعاً لا يستهان به من الجمهور يهتم كثيراً بما يصدر عن هؤلاء، ويجتهد فى متابعتهم من قناة إلى أخرى.
كثيرون من أفراد الجمهور الذين يتحلون بدرجة من الوعى الثقافى ويتمتعون بتعليم جيد يتابعون ما يصدر عن هذا المصدر المنفلت بشغف ولهفة. وبعض هؤلاء يبرر لنفسه المتابعة بـ«ضرورة معرفة ماذا يقول»، ويريح ضميره باعتبار أنه «لا يصدق كلمة مما يقول»، ويسهم فى ترويج خطابه عبر «تشييره» لأصدقائه ومعارفه على «السوشيال ميديا»، مبرراً بـ«لأفضح جهله وكذبه وانفلاته».
وفى كل الأحوال، فإن هذا السلوك ليس سوى نوع من التواطؤ مع هذا المصدر المنفلت، لأنه ببساطة يؤمِّن له، ولمن استضافه، الذرائع الكافية للاستمرار على المنوال ذاته.
الأجندة
لا يمكن أن تكون الأسباب الثلاثة السابق ذكرها كافية وحدها لكى تضمن لهذا الضيف المنفلت التمتع بالمساحات الأوسع والأكثر مشاهدة فى معظم وسائل الإعلام النافذة فى البلاد، خصوصاً أن بعض ما يرتكبه من جرائم ومخالفات يمس مباشرة باعتبارات الأمن القومى، ويقوض الصورة الذهنية لصناعة الإعلام الوطنية، وينقل صورة بالغة السوء عن النخبة المصرية، وطبيعة الحوار الدائر فى المجال العام. لكى يضمن هذا الضيف المنفلت موقعه المميز بين قائمة الضيوف الأكثر ظهوراً على وسائل الإعلام، يجب أن يكون جزءاً من «الأولويات» التى يرسيها القائمون على «ترتيب الأجندة»، التى تخضع لها وسائل الإعلام.
لقد عرفنا منذ عشرينات القرن الفائت أن هناك نظرية تحظى بقدر مناسب من البراهين، تقول بأن وسائل الإعلام «تحدد للجمهور القضايا التى ينشغل بها»، لأن القائمين عليها يختارون عدداً من القضايا التى يعتقدون أن الانشغال بها يخدم مصالحهم، ويحجبون تلك القضايا التى يمكن أن تهدد هذه المصالح.
فوفق نظرية ترتيب الأولويات Agenda Setting Theory، هناك من يملك سلطة التحكم فى الأداء الإعلامى، واختيار الموضوعات التى تحظى بفرصة العرض والنقاش، وتسمية المصادر التى يجب أن تتحدث، بهدف حصر الموضوعات التى يفكر فيها الجمهور فى اتجاه معين، والحد من التفكير فى قضايا بعينها.
ولعل المثل الأبرز على تلك الآلية يمكن استدعاؤه من فيلم «الهروب»، حين سعى الضابط الانتهازى إلى التغطية على استفحال خطر الجماعات المتشددة، والمساءلة بخصوص هروب «المرأة الحديدية»، بقضية «هروب منتصر» المصطنعة اصطناعاً.
ثمة من يريد إلهاءنا بهذا المصدر المنفلت إذن، ورغم أننا لا نملك سلطة إزاحته منفردين، فإن تجاهلنا لما يقوله سيقلل خسائرنا ويحد من فرص استضافته، كما أن ضغوطنا على الإعلاميين الانتهازيين ووسائل الإعلام الشرهة للمال، يمكن أن تثمر.