تاريخنا المصرى ممتد فى جذوره وزاخر برموزه الأفذاذ فى كل المجالات على مر العصور، لكن وكما يقول أبوفراس الحمدانى «وفى الليلة الظلماء يفتقد البدر». وليلتنا الظلماء فى واقعنا الحالى المؤلم هى غياب الحوار المعرفى الهادئ القائم على الثوابت والمبادئ وقبول الآخر مهما تباعدت الشطآن، وحضور «حوار الطرشان» والخروج عن الميثاق والسياق كما هو الحال فى حوارات بعض المنابر الإعلامية، وسجالات منصات التواصل الاجتماعى، الشاهدة على أزمتنا الاجتماعية وتغييب مخزوننا الفكرى، وهشاشة بنيتنا المعرفية فى الشكل والمضمون، وفى التعبير والتقدير.
ولأننا اليوم نحتاج وبشدة لأصحاب رسالة ممن يمتلكون المعرفة والنزاهة ويزهدون فى المنفعة والسياسة، فقد توقفت بتقدير عند أطروحات ومقالات وحوارات ومشاركات الدكتور صلاح فوزى، عضو لجنة الإصلاح التشريعى وأستاذ القانون الدستورى، لأسجل أربعة معايير جديرة بأن تشكل نموذجاً للحوار العلمى المنهجى الراقى فى زمن «الأرض اليباب» كما عنونها الكاتب الإنجليزى «إليوت» لقصيدته الشهيرة:
أولاً: استحضار الأسس المنطقية والقواعد الفقهية والقانونية والمبادئ الدستورية مع التمكن والموثوقية، وتذكير المتلقى بها مقروءة أو مسموعة لتكون أساساً رصيناً للحوار وفق وقائع وثوابت وتحليل وتعليل فى ظل ما أصاب وعينا الجمعى من كسل وتكلس؛ فتجده مثلاً يذكر الجميع بالقاعدة الفقهية «إعمال الكلام خير من إهماله» وغيرها من قواعد مهمة فى جدارية الفكر القانونى الرصين.
ثانياً: التوظيف الأمثل لعلم يمثل حلقة غائبة فى أطروحات الكثيرين، وهو «المقارنات المعيارية» Benchmarking، حيث يأخذك فى جولات فقهية فى الدساتير المماثلة من فرنسا والولايات المتحدة والمغرب وتونس وغيرها، مع ذكر المواد والسنوات والحالات والملابسات والتطبيقات ليكون المتلقى على دراية معرفية تأصيلية تامة، وليكون له الحكم النهائى بعد أن تلقى المعلومة من بستانها المحلى ومثيلها الإقليمى وشبيهها العالمى. ولأنه فقيه دستورى يعلم قواعد الإبحار ومؤشرات الوصول، فإنه يبدع فى تفعيل «البدائل والوسائل» و«القياس» بما يلائم الحالة الذهنية والمعرفية للمتلقى. ويرى أنه أحياناً من الأجدى للحوار أن يبقى كل طرف على شاطئه يُراقب ويُتابع ما يحدث على الشاطئ الآخر طالما تباعدت المسافات مع الحفاظ على صداقة الفكر ونبل الغاية والبوصلة الوطنية، والابتعاد عن نفعية المنطلقات وتسييس المبررات وفق ما يتم فى أدبيات التفاوض ضمن منهجية (ZOPA - Zone of Possible Agreement)، ومعناها نقطة الاتفاق التى يمكن أن يصل إليها أطراف مختلفون فى تفاوضهم.
ثالثاً: فهم المدلولات والوقوف على المستثنيات وتناول الموضوعات بصورة شمولية استراتيجية وبانورامية طويلة المدى، وليس فحسب التركيز على الإجراءات الحالية للحظة الزمنية الآنية القصيرة، ولكن التحليق فى الإطار الزمنى والمكانى وجملة الاعتبارات والاستحقاقات، لتكون الأمانة العلمية والمصداقية المهنية هى موجبات الأهمية.
رابعاً: وضع الضوابط والفواصل والآداب الحوارية بصورة تسمح بالتركيز على «الفعل» وليس «الفاعل»، وعلى الموضوعى المنهجى الجامع والشامل وفق المصلحة العامة، وليس الشخصى الانطباعى الانفرادى المتأزم وفق المصلحة الخاصة، وعلى الوطن والدولة والمبادئ والأحكام والممارسات الدولية والشواهد التاريخية والأحكام القطعية، وليس على الشخص والحكومة والفرضيات والاستنتاجات والظنون والشواهد الكلامية والأحكام الأولية.
تحية تقدير لعالم جليل يسبح ضد تيار «الخصومة المعرفية والثأر الدستورى والكسل البحثى»، له مسيرة حافلة وعامرة بالعطاء العلمى وقيم الأستاذية الحقيقية المفتقدة. وقدم -وما زال- نموذجاً ريادياً فى «أنسنة» الدستور والقانون عبر الحوار الراقى واحترام الآخر، وإثراء الاختلاف لتوليد قيم مضافة.
ما أحوجنا لمنتديات ومنصات تشاركية حوارية تستحضر هذا النموذج علماً وعملاً وخلقاً ونهجاً وقبولاً للآخر بميثاق المواطنة الإيجابية والاختلاف الذى يُثرى.