عندما تسود شريعة الغاب، وتصبح بديلاً للاحتكام للقانون والمنطق فى حل المشكلات الإقليمية والدولية، فلا تُحدّثنى عن الأمم المتحدة، ولا عن مجلس الأمن، ولا أى من الهيئات الدولية التى ظلّت تعتبر مواثيقها هى المرجعية الأساسية لحماية العالم من خطر الفوضى.
ولا شكَّ أن تاريخ الولايات المتحدة يعجّ بهذه التجاوزات والاختراقات لهذه المواثيق، فى تحدٍّ صارخ لجميع المنظمات العاملة فى هذا المجال، باعتبار أن المصالح الأمريكية تعلو على القوانين الدولية، وتتجاوز سُلطات جميع الهيئات، وحتى ولو وقفت جميعها موقفاً موحداً، فالفيتو الأمريكى جاهز لإبطال قراراتها.
ولا فرق هنا بين رئيس وآخر، فالكل فى خندق واحد، مهما تبدّلت الوجوه أو تبادل الحزبان الكبيران موقعَيهما، فالرئيس الأمريكى جورج دبليو بوش، الذى قال فى حربه المعلنة ضد العرب والمسلمين: من ليس معنا فهو ضدنا، أعقبه الرئيس «أوباما» صاحب مخطط «الربيع العبرى» الذى يمثل أخطر صورة للتدخل فى الشئون الداخلية للدول المستهدفة، وتلاه بعد ذلك منطق «البلطجة» الذى يتبناه الرئيس الأمريكى دونالد ترامب.
لقد اتخذ الرئيس الأمريكى الجديد قراراً مناقضاً للقانون الدولى وقرارات الأمم المتحدة ذات الصلة بنقل مقر السفارة الأمريكية إلى القدس، والاعتراف بها عاصمةً أبديةً لإسرائيل، وعندما اعترض على هذا القرار «14» دولة فى مجلس الأمن، لم يجد أمامه من خيار سوى استخدام حق النقض «الفيتو»، بل والتهديد بقطع المعونات الاقتصادية والعسكرية عن أى دولة لا تعترف بالقدس عاصمةً لإسرائيل وتدعم القرار الأمريكى، كما علَّق على تصويت الجمعية العامة للأمم المتحدة ضد قراره بأغلبية 128 صوتاً قائلاً: «إنهم يأخذون ملايين الدولارات، بل المليارات، وفى النهاية يصوِّتون ضدنا!»، وقد أدلت «نيكى هايلى»، مندوبة أمريكا فى الأمم المتحدة، بتصريحات هى أقرب إلى التهديد المباشر، عشية التصويت على القرار فى الأمم المتحدة، مثّلت صورة فجة للابتزاز الصريح بتأكيدها القول: وأنتم تدلون بأصواتكم، لا بد أن تعلموا أن الرئيس والولايات المتحدة يأخذان التصويت بشكل شخصى.
وقالت: إن الرئيس سيراقب التصويت عن كثب، وقد طالب بالإبلاغ عن الدول التى تصوِّت ضد أمريكا، وسنسجّل كل صوت يتم الإدلاء به.
وقالت: إن أمريكا دائماً مطالبة بدفع المزيد والمزيد، ولذلك لا ننتظر من تلك الدول التى قدمت لها مساعدات أن تصوِّت ضدها.
وإذا كان كلام المندوبة الأمريكية يشمل كل الدول الرافضة للقرار الأمريكى بخصوص القدس، إلا أن مصر التى قادت المشروع المقابل فى مجلس الأمن كانت هى الدولة الأولى المقصودة بهذا التحذير.
لقد عبّر اثنان من أهم كُتاب الرأى فى صحيفة الـ«نيويورك تايمز» عن هذا الموقف فى مقال حمل عنوان «مصر حليف فظيع»، انتقدا فيه السياسة المصرية خلال الأعوام الماضية، ووصفاها بأنها سلكت طريقاً يبعد عن توجهات الولايات المتحدة، بل وأضر بمصالحها الخارجية، وذلك فى ضوء إحراج القاهرة لواشنطن فى مجلس الأمن.
واعتبر الكاتبان أن «الثناء على الشراكة الاستراتيجية بين البلدين أصبح حديثاً فارغاً وعفا عليه الزمن، خاصة أن مصالح البلدين أصبحت متباينة بشكل كبير».
وطالب الكاتبان نائب الرئيس الأمريكى «مايك بينس» بأن يكون واضحاً خلال زيارته للقاهرة، وأن يرسل رسالة مهمة إلى كل متلقّى الدعم الأمريكى بأن المساعدة الأمريكية «ليست غير مشروطة»، كما يعتقدون.
وانتقد الكاتبان بشدة تنامى العلاقة المصرية - الروسية، كما زعما أن مصر تحالفت مع روسيا فى معارضة الولايات المتحدة فى القضايا المتعلقة بسوريا وفلسطين وإسرائيل، علاوة على الكشف عن علاقات اقتصادية وعسكرية لمصر مع كوريا الشمالية.
وقال الكاتبان فى الصحيفة، التى تعكس توجهات السياسة الخارجية الأمريكية إلى حد كبير: «إن مصر ولسنوات طويلة، تتعامل مع المساعدة العسكرية الأمريكية السنوية على أنها حق مقابل الحفاظ على معاهدة السلام مع إسرائيل، ولم تحاسبها الولايات المتحدة على كيفية إنفاقها، وعما إذا كانت تخدم الأهداف الأمريكية الأوسع فى المنطقة، وذلك جعل مصر تظن أنها خدمة مجانية غير مشروطة».
وقالا: «إن إدارة ترامب قامت بتعليق 200 مليون دولار من المساعدات العسكرية، هذه بداية يجب أن تتبعها خطوات أخرى، وإنه يجب تخفيض المساعدة العسكرية السنوية البالغة 800 مليون دولار بنحو 500 مليون دولار أخرى».
وأضافا أن «حرمان مصر من الشعور بأحقية الحصول على الدعم قد يعطى نوعاً من النفوذ للحصول على تنازلات من القاهرة وزيارة بينس هى فرصة للتأكد من حصول الولايات المتحدة على تعويضات مقابل التزامها تجاه مصر».
ولم يقتصر الابتزاز على هذه التهديدات والمغالطات التى نشرتها الـ«نيويورك تايمز»، وإنما امتد الأمر إلى تقدّم ستة من أعضاء الكونجرس بمشروع سمّوه «محنة الأقباط فى مصر والدعوة لدعمهم» يوم الجمعة الماضى.
وهذا المشروع يصف وضع الأقباط فى مصر بأنهم «مواطنون من الدرجة الثانية»، ويدعو الحكومة المصرية لإقرار المساواة بين المسلمين والأقباط فى جميع المناحى، ويزعم أن قانون بناء الكنائس فى مصر أدى إلى زيادة الوضع سوءاً، حسب زعمهم.
وكان وزير الخارجية الأمريكى «مايك بينس» قد قال مؤخراً: «إن الرئيس ترامب وجّهنى إلى الشرق الأوسط، وإن إحدى الرسائل التى سأنقلها نيابةً عن الرئيس إلى القادة فى المنطقة هى أن الوقت قد حان لإنهاء اضطهاد المسيحيين وجميع الأقليات الدينية».
صحيح أن الولايات المتحدة لم تبدِ فى يوم ما أية مواقف صادقة، وليس من حقها التدخل فى الشئون الداخلية للدولة المستقلة ذات السيادة، ولكن ما يردده «بينس» نقلاً عن «ترامب»، ما هى إلا رسالة لها أهدافها السياسية، وتريد أن تتخذ من أبناء الوطن من الأقباط حجةً للتدخل، ووسيلة للضغط فى مواجهة استقلالية السياسة الخارجية المصرية.
إن هذه الادعاءات والأكاذيب التى تروّجها الإدارة الأمريكية فى الوقت الراهن، والتى تتبعها حملات مسعورة من المنظمات ووسائل الإعلام ما هى إلا بداية لسيناريوهات قادمة تستهدف أمن البلاد واستقرارها وممارسة الابتزاز ضدها.
إن الأيام القادمة سوف تحمل المزيد من المفاجآت والمؤامرات الصريحة ضد مصر على وجه التحديد، وهو ما يوجب على المصريين جميعاً الاصطفاف الوطنى خلف القيادة الحالية التى باتت مستهدفة، بسبب استقلالية قرارها الوطنى، ورفض الانضواء تحت العباءة الأمريكية بعيداً عن مصلحة مصر الوطنية ومصلحة أمّتها العربية.