الشهيد بسطويسى تنبأ بموته داخل حفرته ورسمها وكتب تحتها: «هنا عمرى ومقبرتى»
سيد بسطويسى
تواصل «الوطن» نشر حلقات رحلة جمع مذكرات «سيد بسطويسى»، شهيد حرب أكتوبر 1973، الذى سجل حياته «رسماً وكتابة» فى عدد من الكشاكيل التى فقد آخرها بعد استشهاده فى إحدى المعارك ضد الإسرائيليين، والذى كان مفتاحاً للعثور على الكشاكيل السبعة الأخرى مع عائلته فى مصر بعد أن اقتفت «الوطن» فى الحلقة الأولى من التحقيق 8 صفحات أفرج عنها جندى إسرائيلى عثر على الكشكول قبل 44 عاماً أثناء مشاركته فى الحرب، سعياً لإعادتها لذويه فى مصر.
ومن خلال الصفحات التى احتوت على أسماء لزملائه التقينا فى الحلقة الأولى مع زميله محمد العربى صديق الذى كشف عن استشهاده يوم 16 أكتوبر 1973، وأنه كان يسجل كل صغيرة وكبيرة فى الحرب برسوماته وكلماته، ومن بعدها التقينا بعائلته فى منزل شقيقه «حمدى بسطويسى» فى مدينة المحلة الكبرى بالغربية، التى أفرجت لـ«الوطن» عن 7 كشاكيل رسمت ملامح حياة الشهيد، فضلاً عن «بورتريهاته» ورسومات الكاريكاتير وأعمال أدبية.
الباحث فى الشئون الإسرائيلية، عمرو زكريا خليل، الذى ترجم بعض مؤلفات صحفى إسرائيلى ساعد الجندى الإسرائيلى فى نشر بعض الصفحات على «فيس بوك»، سعى لاستعادة الكشكول الثامن نظراً لما يحتويه من كواليس الشهور الأخيرة فى حياة «بسطويسى»، وتفاصيل الساعات الأخيرة قبل اندلاع حرب أكتوبر، وبعد الحصول على صور لمحتوى المذكرات التى أكد «زكريا» قرب استعادة النسخة الأصلية لها، نكشف فى هذه الحلقة تفاصيل جديدة عن حرب أكتوبر، وماذا جرى للشهيد فى الأيام الأخيرة قبل استشهاده فى معركة «المزرعة الصينية» التى اندلعت فى إطار «ثغرة الدفرسوار»، وذلك من خلال قراءة الكشكول الثامن بعد ضمه إلى سابقيه.
«الوطن» تواصل نشر مذكرات أحد أبطال أكتوبر: «سيد» كتب المذكرات باسم «سلطانيات» ورسم كل شخصية تحدّث عنها
«مرحى.. أرحّب جداً.. لا بأس».. بهذه الكلمات وصف الشهيد «سيد بسطويسى» شعوره فى مذكراته عندما تم تجنيده فى القوات المسلحة فى أكتوبر 1970 بعد تخرجه فى العام نفسه فى كلية الاقتصاد والعلوم السياسية بجامعة القاهرة، ذهب برفقة والده إلى منطقة تجنيد الإسكندرية، ليتم قبوله.
يقول الشهيد فى أحد كشاكيله التى قرأتها «الوطن» فى منزل شقيقه «حمدى بسطويسى»: «إن الطفولة ليست جميلة يا أماه كما يقولون، ويظل الواحد منا يبذل كل ما فى قدرته ليجتازها بأسرع ما يستطيع، فالإنسان لا يعيش حياته كاملة وهو طفل، ويظل يعد الساعات وينتظر، وقد انتظرت كثيراً يا أمى.. ألقوا خطباً ودقوا طبولاً وألبسونى زياً عسكرياً ثم أرسلونى إلى ميدان القتال».
وضم أحد كشاكيل المذكرات التى أطلق عليها اسم «سلطانيات» توثيق يوميات الشهيد فى القوات المسلحة بعيداً عن إفشاء أى أسرار تخص وحدته العسكرية، متحدثاً عن زملائه فى الكتيبة الذين كُتبت أسماؤهم الثلاثية تحت صور لهم بالقلم الرصاص، متنوعة بين «البورتريه» و«الكاريكاتير»، ويصاحب ذلك قصة كل منهم مكتوبة بصيغة أدبية، ما جعل تلك المذكرات «تأريخاً» هاماً فى فترة فاصلة فى التاريخ، وليس مجرد كتابة يوميات، خصوصاً أنه حرص على كتابة معلومات عنهم مثل الأسماء الثلاثية وتواريخ الميلاد والعناوين.
أؤمن بالحرب عندما أرى فلاحاً يصمم على زراعة أرضه على بعد أمتار من العدو وعندما أرى سنابل القمح مليئة بالغلال.. ومن أجل الحب أحياناً يكون الموت ضرورياً لاستمرار الحياة
حلم سيد أثناء خدمته العسكرية بالسلام قائلاً: «متى يعود السلام؟! إننى عندما أرى بسمة أطفالهم وعيونهم السوداء الجميلة رغم أنهم يعانون من سوء التغذية وملابسهم رثة أؤمن بالحرب.. عندما أرى ذلك الفلاح يصمم أن يزرع الأرض ويعيدها على بعد أمتار من عدو ناصب أؤمن بالحرب.. عندما أرى سنابل القمح مليئة بالغلال وثقيلة أؤمن بالحرب.. عندما أرى حماراً يجلس فى هدوء عجيب أؤمن بالحرب.. أؤمن بالحرب من أجل الناس والأرض والحقول.. القنال.. السماء.. الشمس.. النيل.. القمح. من أجل الحب أحياناً يكون الموت ضرورياً لاستمرار الحياة. إن هذا الجيل وأبناء هذه الطبقة ليسوا سوى ضحية هذا المجتمع ووقود حرية فى تلك المرحلة التاريخية، طوبى لنا.. وكل ما أتمناه أنه إذا كانت هناك عمليات عسكرية سوف تبدأ فإنها يجب أن تضع نهاية النهايات للأزمة، وأن تكون تضحيتنا من جيل إلى جيل يعيش فى سلام وأمان ويتمتع بالرخاء».
ثم يحكى عن مفارقاته الطريفة فيكتب عن «تمثيلية» ألّفها ومثّلها لإرهاب «العريف مسعد» ليلاً، قائلاً: «حالة من الصراخ والتشنجات، تمثيلية من أجل إرهاب العريف مسعد، وفعلاً أجدتُ الدور، حتى إن الجميع صدّق أننى أُصبت بحالة من الهيستريا، وصحت فيهم: راح فين، أنا لازم أقتله، أنا لازم أشرب من دمه، فعلاً استيقظ على صياحى وصدّق الجميع التمثيلية وأنا الوحيد الذى أعرف الحقيقة.. إننى دُهشت فعلاً لإجادتى الدور».
كتب قبل وفاته: الغارات لم تعد تخيفنا.. كنا نعد طعامنا على صوت الانفجارات التى كانت تفتح شهيتنا.. ومواجهة الموت فى الحرب تختلف عن أخبارها فى الصحف
رائحة الموت فى المذكرات
لم يغفل «سيد» معايشته لمرض شقيقته بالسرطان ووفاتها فى مذكراته، فاحتلت جزءاً كبيراً من كشاكيله، سواء الـ7 التى تركها فى المنزل أو الثامن الذى عثر عليه الجندى الإسرائيلى، فكتب عنها: «قضيت 10 أيام مع أختى صفاء فى المستشفى، كان لى معها مع كل نهار عذاب، ومع كل ليل آلام.. آلامها رهيبة والمرض لم ينته، يسرى فى الدم ينهش اللحم والعظم بنهم، هذا الوحش المجهول، والجسد ضعيف وضئيل رقيق واهن أنهكته المقاومة، ولكن.. هناك أمل.. بقع الدم والنزيف من الأسنان وأورام الفك وعمليات نقل الدم الرهيبة والمنتشرة على الأرضية أثناء وضع الإبرة فى الوريد الضعيف الذى كاد يهترئ من عمليات نقل الدم.. الآلام الصراخ، أشياء أضنت صاحبة الجسد الضعيف الواهن.. أنظر إليها محاولاً مقارنة تلك الإنسانة التى أجلس بجانبها وصورتها قبل المرض اللعين فأفشل لأننى لا أتذكر صورتها السابقة من كثرة السفر والترحال.. فأنا دائماً مغترب بل أكاد أنسى صورتها.. لا أستطيع أن أخفف عنها الآلام إلا بتلك الكلمات السخيفة التى لا ترقى إلى مستوى الآلام الرهيبة.. الحياة تسحب منها ببطء والمرض متمكن.. وآمنت بأن ذلك الإنسان ليس سوى قِربة من الدم متى نفدت فإن القربة يجب أن تُلقى بعيداً، وليس على قارعة الطريق حتى لا تؤذى المارة، بل بعيداً ونحفر لها حفرة».
يقول شقيقه نبيل بسطويسى: «سيد بات معها فى المستشفى وقت مرضها، وقال لى إنه فكّر يريّحها بكل الحبوب المهدئة، ولكنه ماقدرش، ولما توفيت حضر سيد الأربعين، وبعد كده سافر على الجيش ومارجعش تانى، وفى آخر يوم أتذكر إنى اشتريت له علبة سجاير، وكان الحديث بينا عن مصير معالى ابنتها، وقال جملة لا يمكن أن أنساها، وهى أنه إذا وقعت الحرب ووقعت ثغرة أو اختراق سيكون من المنطقة التى أخدم فيها لأنه أضيق مكان فى القناة»، موضحاً بشأن ابنة أخته: «معالى تربت معنا، والآن هى ربة منزل، وهى خريجة كلية الزراعة، أما شقيقها وائل فهو الآن فى القوات المسلحة». ويضيف شقيقه الثانى حمدى: «أتذكر اليوم الأخير الذى فارقنا فيه سيد، كنا عند قبر صفاء وأحضر لنا مصحفاً للقراءة منه على القبر، كان بيقول: دى كانت هى أمى بعد أمى ما توفت».
«أستطيع الهرب من موت الآخرين ولكن سأكون أشد حزناً إذا مت الآن.. لم أنعم بالحياة بعد».. طيار إسرائيلى وجد نفسه أمام مأزق الدفاع الجوى المصرى فرمى حمولته وهرب.. وقبل الحرب بأيام مصر استدعت الإجازات والرديف
لم يحضر سيد حادث وفاة شقيقته، ولكنه فوجئ به عند عودته من الجيش، فكتب عن صدمته: «حضرت فجأة ولاحظت شيئاً غير عادى، عندما دخلت إلى الشارع رأيت المنزل مضاء وحجرة الجلوس مضاءة، ثم رأيت أبى هنا فى طنطا، ووقفت أمام باب البيت أنظر لأجد مجموعة من النسوة فى تلك الثياب السوداء الكئيبة، توقفت للحظة وقد أدركت كل شىء.. نعم.. حدث ما كان متوقعاً يوم الأربعاء 11 يوليو 1973، وكان آخر لقاء لى معها يوم 5 يوليو 1973 هو اللقاء الأخير، وكلماتها كانت الكلمات الأخيرة.. لقد انتهت مأساة آلامك يا أختى.. كتب الله لك الجنة وجعلها لك».
حرص «سيد» على زيارة القبر الذى ضم أخته حديثاً، وأمه قديماً، معتذراً وقال: «آسف لتأخرى يا أمى فى زيارتك كل هذه الأعوام، ولكن ها هى صفاء فى أحضانك تؤنس وحشتك إلى حين نعود من أعمالنا الدنيوية التافهة الصغيرة التى تجذبنا من أنوفنا كالعبيد حتى نأتى ونبقى معك إلى جواركما بعض الوقت نطفئ ظمأ الشوق والحنين وذلك الحب المفقود والضائع.. وفى يوم من الأيام يا صفاء ما كنت أتصور أنه سوف يفصل بينى وبينك جدار سُدّت فوّهته بالجبس ونُقش عليه اسمك بخط ركيك.. لقد حُرمنا منك فلماذا العمل وكيف يكون الصبر؟ كيف تواتينا الشجاعة؟ إننا للأسف تجرفنا الحياة، ننفعل للحظات، نبكى بحرقة وأسى، ثم تجوع بطوننا فلا تعوى على مفارقتها.. كنت أود يا صفاء لو ألقيتُ عليك نظرة أخيرة تملأ عينى وجفونى وقبّلتك وضممتك إلى صدرى، ولكن لم أكن أعلم، بل كنت أتركك على أمل اللقاء ثانية».
وكتب: «أختى.. اغفرى لنا صغائرنا نحوك.. ولعلك تجيبيننى فى يوم من الأيام أنت وماما لماذا تركتماننا فى هذه السن وفى تلك الحالة، وما هى الحكمة وما هو السر؟!.. أختى.. ماما، أنا طفل كبير فى حاجة إليكما.. متى يكون اللقاء؟! سوف نأتى جميعاً نزوركما.. ربما منعنى أبى وجدتى خشية على معرفة طريق المقابر، ولكن الآن قد عرفت الطريق.. الطريق أصبح سهلاً ويمكن أن أسير فيه وحيداً دون أن أخشى شيئاً.. صفاء.. ماما هل تغفران لى كل شىء فأنا أحبكما جداً جداً ولكنكما رحلتما سريعاً».
وعن وفاة خالته كتب: «رائحة الموت كريهة، إنى دائماً أهرب من الجنازات، أهرب من رائحة الموت، وظواهر الموت، ولكن هل أستطيع إذا كنت أهرب من موت الآخرين أن أهرب من موتى؟ إنه لظلم كبير إذا متُّ الآن فى هذه الحرب، فأنا حتى الآن لم أحقق ما أريد، لم أنعم بالحياة، لو مت الآن سوف أكون أشد حزناً، أشعر أن الموت قريب وأنى قد وقعت فى المصيدة».
عندما ماتت أمه لم يقولوا له إنها ماتت، وأخبروه أنها «سافرت عند أخواتها» حتى كبر والتحق بالجيش ليصبح قريباً من الموت ويواجهه يومياً، وعندها تساءل: «آمال.. وأحلام.. ولكن بعد أن تنتهى الحرب؟!.. ولكنى لا أعلم.. لا أحد يعلم متى تنتهى هذه الحرب.. وإن انتهت.. لا أعرف إذا كنت سأكون لحظتها سليماً معافى.. أم مشوهاً عاجزاً.. أو جثة فى قبر.. حيث البرد والظلام والدود حتى النخاع.. جثة تحمل وسام شرف ونوط شجاعة من الدرجة الأولى».
«سيد» تنبأ باستشهاده قبل اندلاع الحرب بقرابة شهرين، وكتب فى 15 أغسطس 1973 أمام المقابر: «هذه المرة دون أى إحساس بالغربة.. بل شعرت أنى أنتمى إلى تلك البقعة من الأرض وإلى ذلك الجزء من التراب الذى يضم أمى وأختى».
«معاريف»: «مذكرات سيد كذّبت رواية حكوماتنا.. والشهيد كان رجل مدفع «هاون».. و«يارون» الجندى الإسرائيلى: «كان فناناً.. وخسارة يموت»
استشهاد «سيد بسطويسى»
استشهد «سيد» فى 16 أكتوبر بعد اندلاع الحرب بـ6 أيام، وطلب شقيقه نبيل من قائد وحدته البحث فى أسماء الشهداء حتى يطمئن على شقيقه الذى يخدم على الجبهة، إلا أن القائد رفض أن يبلغه، يقول نبيل: «كنا بنمشى ندوّر على سيد فى الشوارع اللى كنا بنمشى فيها يمكن ألاقيه فاقد الذاكرة وتايه، لحد ما جت شهادة الاستشهاد فى 1974»، موضحاً: «توجه المستشار العسكرى فى المنطقة إلى الوالد وأعلمه بالاستشهاد.. وعلمت باستشهاد سيد بعد ذلك، وانهرت بالفعل، كان موقفاً صعباً جداً بالنسبة لى لأننى كنت أعتبره ابنى، فرق السن بيننا كان 8 سنوات، وكنت أتولى شئونه، وبالنسبة لوالدى كان الموقف أصعب، فلم يستطع استكمال حياته فى منزلنا القديم، وانتقل إلى شقة فى مكان آخر لأنه كان يتذكر سيد فى كل مكان فى المنزل، وأوصى الوالد بترك ما يخص سيد كما هو، مكتبته التى سجل فيها يومياته التى نحتفظ بها حتى الآن، وملابسه التى ظلت حتى تبرعنا بها بعد وفاة أبى، حتى جدول مواعيده الذى علقه فى الكومودينو بدبوس ظل حتى وفاة أبى فى 1998، وكان معاش سيد بعد وفاته 37 جنيهاً ونصف»، مستطرداً: «قعدت فترة أدوّر عليه اتدفن فين.. بس ماعرفتش، هو مدفون فى الإسماعيلية بس مش عارف المكان بالتحديد، وعرفت إنه اتدفن بالأفرول بتاعه».
«الحمد لله إنه استشهد.. لو كان اتصاب فى الحرب، أو اتشوه، كنت هعمل إيه فيه وأنا تعبان كده؟».. كان تعبيراً صادماً لوالده حسين بسطويسى عندما رأى ضحايا الحرب من المصابين، حيث يقول شقيقه نبيل إن تعبير والده صدمه آنذاك، لكنه عاد فقال: «فعلاً هو أكيد فى مكان أحسن من هنا بكتير».
خدم «سيد» فى «الدفاع الجوى»، فيما سبقه شقيقه الأكبر نبيل إلى الخدمة فى مركز تدريب سلاح المركبات، يقول نبيل: «لم تكن هناك معاناة فى خدمتى، فقط كانت معاناتى أنى تركت حبيبتى، البنت التى تعلقت بها وكنت أنوى الزواج منها، بعكس سيد الذى كان يخدم على الجبهة».
معركة «المزرعة الصينية»
بعد أن تكللت رحلة «الوطن» بالنجاح واستعادت محتوى الكشكول الثامن من إسرائيل كشفت أوراقه أنه يوثق آخر ثلاثة أشهر فى حياة الشهيد حتى يوم 15 أكتوبر، أى قبل استشهاده بيوم واحد، فيما كانت بقية الصفحات بيضاء، ما يدل على أنه استشهد فى معركة «المزرعة الصينية»، إحدى أهم المعارك التى دارت فى أيام اشتباكات «ثغرة الدفرسوار» لمنع تقدم الفرقة 143 المدرعة الإسرائيلية بقيادة الجنرال أرئيل شارون لقطع خطوط الإمدادات للجيش الثالث.
وسُميت المعركة التى نشبت يومَى 15 و16 أكتوبر 1973 بـ«المزرعة الصينية» بسبب موقعها، حيث توجد محطة زراعية تجريبية على ضفة قناة السويس الشرقية ومساحتها تقريباً 15 ميلاً مربعاً، وتم تأسيس المحطة فى الخمسينات لاختبار زراعة المحاصيل فى التربة الصحراوية القاحلة بسيناء، وفى عام 1967 استولت القوات الإسرائيلية على المحطة، وعندما لاحظ الإسرائيليون حروفاً تبدو كأنها لغة «صينية» على الآلات الزراعية وصفوها بـ«المزرعة الصينية» على الخرائط العسكرية رغم أن الآلات كانت يابانية. وخلال حرب أكتوبر، استعاد الجيش المصرى المحطة بواسطة الجيش الثانى الميدانى.
«الكشكول الثامن»
قرأت «الوطن» عدداً من الصفحات التى حصلت عليها بواسطة الباحث المصرى «عمرو زكريا» الذى أكد أن «الكشكول الثامن» سيُعاد بالطبع إلى عائلة الشهيد سيد بسطويسى، وكان أبرز ما كتبه الشهيد فى 1 أكتوبر 1973 تأكيده أنه علم أن هناك عمليات مقبلة وأن الحرب ستندلع قائلاً: «اجتمع بنا قائد الكتيبة بعد ظهر اليوم، وأكد حدوث عمليات بعد يومين أو ثلاثة، وطلب منا الاستعداد الكامل وقال (إنى أوصيكم بأنفسكم وزملائكم وقادتكم فى المعركة.. تحت النابالم.. والطيران.. سوف نعبر ولا بد أن نعبر وليس هناك أى تراجع)». وتابع سيد معلقاً على ذلك: «البحيرات.. أمواجها الفيروزية تنساب فى هدوء وروعة تحت سماء خريفية بها سحب بيضاء.. والنقطة القوية تظهر فى سلام وسط الرمال الصفراء كنقطة سوداء داكنة وواضحة.. وهناك هدوء وسكون مريب.. ولا أتخيل عنف الموقف الذى سيكون بعد ثلاثة أيام على الأكثر.. بلادى فى إحساس من الانقباض.. وأعصابى بدأت تتخدّر قليلاً.. وتطوف بذهنى صور شتى.. فأنا لم أستعد حتى الآن لملاقاة الله.. كما أن الحياة حلوة وجميلة، وما زالت هناك أحلام وآمال كبيرة تنتظرنى وأعيشها ببساطة.. لا أريد أن أموت فى هذه السن!!».
وعن وصفه للأيام الأخيرة قبل اندلاع الحرب كتب: «بدأت الأحداث تتدافع بسرعة وصمت، ونحن نندفع معها، استُدعيت الإجازات والرديف، نعم هى الحرب التى لا مفر منها!!.. ولكن الحديث عن الحرب شىء وخوض التجربة شىء آخر.. أن يكون الإنسان فى الميدان بين النيران وجهاً لوجه أمام الموت يختلف تماماً.. من خبر إعلان نشوب القتال فى مانشيتات جرايد الصباح.. وإن خبراً صغيراً يعلنه المذيع ويغلفه بالانفعال من إصابة عدد بسيط من الجنود!! ليُعتبر هزلاً غير لائق بعمق المأساة حتى لو كان المصاب هو محمد رجب!!.. إنى أتساءل: لماذا أحاول أن أسجل شيئاً ما قبل الأيام القليلة المقبلة، وما تحمله من مفاجآت!!.. ربما تكون هذه الكلمات هى الأخيرة ولو بطريق الصدفة.. إنى دائماً أكره الموت.. ورائحة الموت.. الآن أتصور والدى وهو ساهر بجانب جثة صفاء طوال الليل، ويقضى معها تلك اللحظات الرهيبة حتى يصل بها من الإسكندرية إلى المقابر فى طنطا.. أتخيلها الآن وتمر بى صورتها وهى فى المستشفى وعمليات نقل الدم الرهيبة، والذراع الهزيلة التى تهرّأت من الإبر، وازرقّت واخضرّت!! وهى نائمة فى الفراش الأبيض السخيف، كومة من العظام داخل ملابس فضفاضة».
مشهد الموت تكرر مرتين الأولى: أخطأت القذيفة الهدف وسقطت على بعد 20 متراً.. والثانية: أصابت هدفها بعد يومين واستشهد فى حفرته الميدانية.. تنبأ باستشهاده: «شعرت بالانتماء إلى تلك البقعة من الأرض وإلى ذلك الجزء من التراب الذى يضم أمى وأختى.. وربما تكون كلماتى الأخيرة.. إنى دائماً أكره الموت ورائحته»
وفى يوم 15 أكتوبر قبل استشهاده بـ24 ساعة فقط، أكد سيد أنهم فى الكتيبة لم يعودوا يخافون من الغارات لدرجة أنها لم تؤثر حتى على استمرار وجبة من الوجبات، وكتب آنذاك: «أعلن بيان عسكرى عن تقدم قواتنا من المشاة الميكانيكى والدبابات على طول الجبهة اليوم، وذلك طبقاً للخطة الموضوعة.. استيقظت فى نحو الرابعة صباحاً عند الفجر مع دانات بطاريات العدو، واستطعت تجاهل ذلك حتى الساعة السادسة صباحاً.. استيقظت بعد ليلة من النوم العميق، فقد نعمت لأول مرة بالدفء الذى ساعد على زيادة نشاط عقلى الباطن.. مجموعة من الأحلام اللامعقولة تماماً!! وفى نحو الساعة السابعة والنصف بدأت غارة طائرات على قاعدة الصواريخ التى تسببت أمس فى إشعال النيران فى إحدى عرباتنا، حيث ألقى الطيار الإسرائيلى حمولته على العربة فى خط الحملة عندما وجد نفسه فى مأزق أمام الدفاع الجوى وهرب».
ويكمل: «أثناء تناولنا الإفطار أو الغداء فى حفرة محمد السيد نخفض رؤوسنا ونستمر فى تسخين العلب وإعداد الشاى، فإن الغارات لا تمس أبداً انشغالنا بالطعام، بل إنها تزيد من شهيتنا ولقد تعودنا عليها.. وأُعلن فى بيان عسكرى أمس أن قواتنا على طول المواجهة تخوض معارك عنيفة بالدبابات والمشاة مع قوات العدو حتى تحاول صد قواتنا، وأُعلن عن تدمير 150 دبابة ومجنزرة واشتراك طائراتنا فى حرب الصواريخ المضادة للدبابات التى تستخدمها إسرائيل، كما أسقط دفاعنا الجوى مجموع 44 طائرة، أمس، حيث اشتركت بعضها فى الهجوم على قواتنا المتقدمة.. وقال الجنرال الإسرائيلى حاييم هرتسوج، كبير الكتيبة الإسرائيلية، إن دخول قواعد صواريخ أرض جو من سام 6 إلى الضفة الشرقية يعنى أن المصريين ينوون شن هجوم كبير داخل سيناء، وأن هذه الصواريخ هى (القاتل) الرئيسى للطائرات الفانتوم».
«سيد» تنبأ باستشهاده
حفرة تكفى مساحتها للنزول والصعود مرة أخرى من أجل الاختباء من هجمات العدو، سواء كانت غازاً أو ضربة جوية أو غيرها، يحدها من جميع أنحائها أطرف من الرمل ويغطى كل ذلك من أعلى زى التمويه العسكرى حتى لا تظهر، إنه شكل الحفرة الميدانية فى الحرب التى سكنها «سيد» متنبئاً باستشهاده فيها أثناء المعارك فى الحرب، ورسمها فى كشكول مذكراته وكتب عليها «حفرتى الميدانية عمرى ومقبرتى»، وجاء ذلك بعد أن اقترب الموت منه فى إحدى المرات عندما سقطت قذيفة بعيداً عن حفرته بنحو 20 متراً فقط بحسب ما كتبه فى مذكراته الأخيرة، ولم يكن يعلم سيد أن المشهد سيتكرر، ولكن فى المرة الثانية سيلقى الموت ويرتقى شهيداً للقوات المسلحة المصرية، حيث أفاد زميله فى الجيش «محمد العربى صديق» الذى التقت به «الوطن» أن سيد استُشهد داخل حفرته الميدانية بعد أن أصابت القذيفة الحفرة واستقرت 3 شظايا فى صدره.
نشر الصحفى الإسرائيلى «جاكى خوجى» تقريرين فى صحيفة «معاريف» الإسرائيلية عن مذكرات الشهيد «بسطويسى» الموجودة الآن فى حوزة الجندى الإسرائيلى السابق «عوديد يارون» -الذى ينوى إعادتها لعائلته- فى تقريره الأول الذى نُشر بتاريخ 1 أكتوبر 2017، أنه منذ 44 عاماً قبل الآن وجد «يارون» وثيقة تضم فى طياتها عالماً بأكمله، وتعود إلى جندى كان يخدم فى الجيش المصرى أثناء حرب أكتوبر 1973 وكان ضمن القوات التى اشتبكت فى معركة «المزرعة الصينية»، حيث لقى حتفه فيها، لأنه توقف عن كتابة يومياته يوم 15 أكتوبر عام 1973، وأشار«خوجى» إلى أن «عوديد» حاول الوصول إلى أسرة الجندى المصرى طوال السنوات الماضية لكن تلك الجهود ذهبت سدى.
من خلال كشكول المذكرات الموجود فى مدينة «القدس» بحوزة الجندى الإسرائيلى السابق، استنتج «خوجى» أن سيد كان «رجل مدفع هاون» فى حرب أكتوبر، وتحدّث فى كشكوله الأخير عن آخر 3 أشهر من حياته، وقال إنه كتب على نطاق واسع وعميق عن رفاقه فى الوحدة العسكرية وهم مجموعة من المجندين الشباب من جميع أنحاء مصر «برشاقة ونظرة عميقة»، ولفت إلى أن هناك بعض الأعمال الشعرية فى اليوميات رغم أنها كانت مكتوبة فى ظل ظروف ميدانية، فضلاً عن بعض الرسومات التوضيحية لعدد من أصدقائه، أو «كاريكاتير» مع نكات جميلة.
ونقلت «معاريف» عن الجندى الإسرائيلى: «كنت لأصبح سعيداً أن أعلم أنه لم يُقتل.. فمن حقه أو أحبائه الحصول على المذكرات، لأنه كان غنياً بالموهبة». وكتب «خوجى» إن هذا التقرير هو الأخير فى محاولات «يارون» على مر السنين لإعادة تلك المذكرات لسيد أو أقاربه، لافتاً إلى أنه يخشى تسليمها للجهات الرسمية المصرية، مشيراً إلى نماذج من رفقاء سيد وهم: «محمد وصديقه صلاح، وكلاهما من الغربية، ومحب عاملً من الإسكندرية، وحلمى خريج جامعة الأزهر، وعلى، وكلاهما من أسيوط، وصلاح الدين من الدقهلية، ومحمد من المنيا»، لافتاً فى تقريره إلى أن «هؤلاء هم أبطال مذكرات سيد، ومن المدهش أنه رسمهم بصورهم، فهل هم أحياء أم ميتون؟».
«يا ريتنى ما كنت اتجوزت ولا كتبت كتابى، على الأقل مش عايل حد غير نفسى، مش حرام الواحد يبهدل بنات الناس معاه.. قالها محب بأسى وحسرة، بعدما تأكدت شائعات الحشد العسكرى الكبير، والاستعداد للعمليات وعبور القناة»، هكذا وصف «سيد» قصة زميله فى الجيش «محب عبدالرحمن متولى» الذى وُلد فى 3 أكتوبر 1953 فى منطقة القيصرية بالمحلة الكبرى والتحق بالجيش فى 9 أبريل 1973 بعد أن كان عاملاً فى شركة الغزل والنسيج ليترك وراءه زوجة، ليسأله سيد، ويرد مؤكداً: «الحرب أفضل من التعليقة دى».
وأشار «خوجى» فى تقريره إلى أن سيد لم يكن جندياً احتياطياً وتم استدعاؤه فى القوات المسلحة، بل دخل الجيش فى إطار الخدمة الإلزامية، ولكن بسبب حالة الطوارئ العسكرية والحرب الدائرة منذ حرب 1967 تم تمديد فترة خدمته العسكرية التى طالت لدى البعض إلى 10 سنوات، لافتاً إلى كلمات سيد فى المذكرات بشأن أمنيته بتحقيق السلام فى المستقبل عندما قال: «إنها رغبتى ألا تستمر الحرب طويلاً وأن تنتهى سريعاً بانتصارنا، وتكون الحرب التى تُنهى كل الحروب حتى يعيش الجيل المقبل فى سلام دائم، وكل الأجيال المقبلة».
«هو فنان وُجد فى الحرب.. وأعماله الأدبية تهتم بالناس» هكذا وصفه الجندى الإسرائيلى «عوديد يارون» الذى احتفظ بالمذكرات، مستكملاً وصفه: «هذا بالخصوص ما تراه فى اليوميات، وصف أصدقاءه فى الوحدة، فهو يتناولهم بنظرة إنسانية غير متعجرفة، ولكنه رحيم. الحقيقة أنه استطاع رؤيتهم، يضحك معهم وليس عليهم، وهذا جعلنى أرى أنه خرج من هناك بسلام.. فهى كانت حرباً نفسية، وخسارة جداً أن يموت إنسان مثل هذا».
«عوديد يارون»
الجندى الإسرائيلى الذى عثر على المذكرات وُلد فى «تل أبيب» عام 1944 باسم «عوديد يونجرمان»، وخدمته العسكرية الإجبارية كانت فى لواء «ناحال»، وهو أحد ألوية الجيش الإسرائيلى، ومعناه «شباب الطليعة المقاتلة»، وكان فى القوات المحمولة جواً، وبمجرد انتهاء خدمته الإلزامية بدأ دراسته فى جامعة «تخنيون» للتقنية، وحصل على درجة البكالوريوس فى الهندسة الكهربائية عام 1975، وبعد أن تزوج غيّر اسمه إلى «يارون»، وهو يعيش الآن فى القدس مع زوجته وولديه الاثنين، ويعمل منذ أكثر من 24 سنة فى مؤسسة تعليمية للطلاب مسئولاً عن مختبر الفيزياء.
خدم «عوديد» فى حرب أكتوبر كـ«جندى احتياط» فى كتيبة خُصصت فى استخدام مدافع «الهاون» 120 ملم، وبدءاً من 7 أكتوبر، ثانى أيام الحرب وعلى مرّ ثلاثة أسابيع وأكثر، ظل هو وزملاؤه فى منطقة «رأس سدر»، وفى 28 أكتوبر تم فتح محادثات مصرية- إسرائيلية بشأن وقف إطلاق النار فى الكيلومتر 101، وآنذاك تم نقل «يارون» وزملائه إلى منطقة «المزرعة الصينية». ووفقاً لرواية الجندى الإسرائيلى تم غزو المنطقة قبلها بعشرة أيام فقط بعد «المعركة الصادمة» من قبَل المدرعات والمظلات، حيث استُشهد سيد.
وتابع «عوديد»: «بقينا هناك لبضعة أشهر، وكان هناك الكثير من الوقت، وتجوّل العديد من الجنود ووجدوا الأشياء التى تركها المصريون، على سبيل المثال فأنا وجدت مخزون صواريخ من طراز (ساجر)، وكان أخى يعمل ضابطاً فى جهاز الاستخبارات الإسرائيلى، وكان يتقن اللغة العربية، فأرسلت له اليوميات ليترجمها، وعندما فكّ رموزها أخى أسفتُ على سيد وعائلته»، موضحاً أنه منذ يوم 15 أكتوبر انقطع سيد عن الكتابة وأن الصفحات التالية «فارغة»، لافتاً إلى أنه كان يتحدث فيها عن معركة المزرعة الصينية التى غالباً استُشهد فيها.
فى السنة الأولى بعد الحرب حاول «عوديد» إعادة تلك اليوميات، حيث يشير «جاى خوجى» فى تقريره إلى أن باحثة مصرية تُدعى سناء حسن هبطت فى إسرائيل عام 1974 وكتبت كتاباً عن إسرائيل بمشاركة الصحفى الإسرائيلى «عاموس إيلون» وأثارت تلك الزيارة الغضب فى القاهرة، وعلى الرغم من ذلك هاتف «عوديد» سناء وتوجّه إليها بطلبه، إلا أنها رفضت بأدب قائلة: «لا أستطيع العودة إلى القاهرة»، وحاول «عوديد» مرة أخرى بعد توقيع معاهدة السلام، إلا أن جهوده باءت بالفشل. وأشار «خوجى» فى تقريره إلى أنها ليست مذكرات سيد الوحيدة، حيث يحتفظ «يارون» بمذكرات له أيضاً، كتب فيها يوم 9 أكتوبر الساعة الخامسة فجراً بعد استدعائه بعدة أيام: «الآن، وقبل أن يأتى اليوم، علينا أن نتراجع بسرعة إلى جانب الوادى قبل أن يأتى هجوم الطائرات المصرية»، وفى نفس اليوم فى الساعة الثالثة والنصف عصراً كتب: «هذه حرب.. هبطت علينا طائرة وضربتنا، وأصيبت دبابة واحدة، ولا أعلم ماذا جرى لها». وتابع «خوجى» فى تقريره: «على نقيض عوديد، كان الجندى المصرى يصف محادثات زملائه»، حيث أشارت «معاريف» إلى أن سيد كتب فى المذكرات الموجودة فى إسرائيل بشكل كبير عن صديقه صابر أبوغزالة الذى لقى حتفه مرضاً بـ«التيفوس» قبلها بعام عن عمر يناهز الـ20 عاماً، أى فى عام 1972.
وفى تقريره الثانى، ومن خلال ما كُتب فى اليوميات، يقول «خوجى» إن ما كتبه «سيد» يكذّب الحكومة الإسرائيلية، حيث إن الحكومة كانت تنفى ما يعلمه أبسط جندى مصرى وهو الحديث عن أن المعركة تقترب، وأن القادة أبلغوا الجنود يوم 1 أكتوبر بأنهم سيخرجون إلى الحرب خلال يومين أو ثلاثة أيام، وبالفعل اندلعت الحرب يوم السبت بعدها بأيام قليلة، ونقل عن سيد ما كتبه فى يومياته: «لست مستعداً للقاء الله بعد.. الحياة حلوة وجميلة، ولا تزال هناك أحلام وآمال كبيرة أتوقع تحقيقها».
الباحث فى الشئون الإسرائيلية، عمرو زكريا خليل، الذى عمل على ترجمة كتاب «ألف ليلة وليلة دوت كوم» العبرى للصحفى الإسرائيلى «جاكى خوجى» الذى قام بنشر أجزاء مذكرات الشهيد سيد بسطويسى، يقول إن الشهيد سيد نموذج لأحد أبطال القوات المسلحة الذين دفعوا أرواحهم ثمناً لاستعادة كرامة الشعب المصرى بعد هزيمة 1967، ولا يزالون يدافعون عنها وعن الشعب المصرى كله بأرواحهم.
يضيف «زكريا» أن تلك المذكرات «تُعد ذات أهمية كبيرة لأنها تعبّر عن تلك الفترة التى عاشها جنودنا على الجبهة قبل الحرب وخلالها؛ فمن المهم أن نعرف كيف عاش جنودنا فى هذه المرحلة على الجبهة؟ وكيف كانوا يفكرون؟ وماذا كان يدور بخاطرهم وهم فى انتظار اليوم الذى سيحررون فيه الأرض؟ وكيف كانوا يقضون حياتهم اليومية؟ فهذه المذكرات بمثابة وثيقة تاريخية كتبها شاهد عيان على تلك الفترة؛ وإن كانت من وجهة نظره هو فقط، وفى المنطقة التى خدم فيها؛ وامتدت المذكرات لتشمل أصدقاءه وحياتهم الشخصية وطموحات هذا الجيل بأكمله وأحلامه بجانب حياة سيد.. فقد كتب سيد الحاصل على بكالوريوس العلوم السياسية عن حياته، وكتب أشعاراً، ورسم رسومات جميلة، وفى نفس الوقت كتب عن زملائه الذين قد لا يعرفون القراءة والكتابة، وعن حياتهم الشخصية وطموحاتهم وآمالهم»، وذلك بعد استعادة محتوى الكشكول الثامن.
«أيضاً هذه المذكرات لها أهمية معنوية»، قالها «زكريا» مشيراً إلى ضرورة أن «نعيد لأهل الشهيد بعضاً مما فقدوه بفقدانهم لحبيبهم؛ فهذه المذكرات تُعتبر أفكار سيد وأحلامه خطّها بقلمه على الورق وفيها روحه وأشجانه التى خطها ورسمها بقلمه الرصاص فى صورة أشعار ورسومات». ويكمل: «أعتقد أنها مهمة كذلك لجميع المصريين الذين شارك آباؤهم فى الحرب وأنا واحد منهم، حيث خدم والدى فى القوات المسلحة فى نفس الفترة، وإن كان يكبر الشهيد سيد فى العمر بأربع سنوات، لكنه أمضى تسع سنوات فى الخدمة مثله مثل الكثير من شباب مصر فى تلك الفترة، حتى تحقق النصر، ثم بدأ تسريحهم من الخدمة.. وأشعر أنى أستطيع أن أختبر من هذه المذكرات كيف عاش أبى فى تلك الفترة؛ رغم كل ما أخبرنى به رحمه الله، عن تلك الفترة»، مستطرداً: «حسيت إنه والدى». ويضيف «زكريا» لـ«الوطن»: «لقد عرض الجندى الإسرائيلى عوديد الذى يحتفظ بالمذكرات إعادتها لأسرة الشهيد، لكن بشكل شخصى أو عبر وسيط غير رسمى، حيث سبق أن حاول، حسب ما نشرته جريدة معاريف الإسرائيلية، إرجاعها عبر القنوات الرسمية ولم يفلح فى ذلك، لكننا سنواصل السعى من أجل استرجاعها».
ويتابع: «يجب ألا تتخلى الدولة أو الشعب عن شهدائه الذين سقطوا ويسقطون كل يوم، سواء فى حروب الماضى أو اليوم فى محاربة الإرهاب، والشهداء اليوم ليسوا فقط من القوات المسلحة أو الشرطة لكن من الشعب أيضاً، وعلى الدولة والجمعيات الأهلية والمنظمات غير الحكومية تقديم كافة سبل الدعم لهم، وتخليد ذكرى هؤلاء الشهداء بإطلاق أسمائهم على شوارعنا ومدارسنا كى لا ننساهم أبداً، ورعاية أبنائهم وتوفير الحياة الكريمة لهم، وأنا عن نفسى كمترجم سأقوم بإهداء كتابى المقبل (إسرائيل ودول شرق أوروبا) إلى الشهيد سيد بسطويسى كتكريم متواضع منى لهذا البطل الذى ضحى بعمره ومستقبله الذى كان ينتظره كى ننعم نحن بالحياة على كامل تراب أرضنا».
أحد أصدقاء الشهيد
سيد يتوسط زملاء الجبهة
الجندى حلمى مصطفى أحد زملاء الشهيد
الشهيد يتوسط زملاءه فى الجيش
سيد بسطويسى
معركة «المزرعة الصينية»
عوديد يارون
عمرو زكريا
خسائر إسرائيلية فى معركة المزرعة الصينية
«البكاء الأول».. إحدى رسومات سيد
.. ورسم آخر للشهيد
إحدى رسوماته
صلاح عبدالودود زميل سيد بالكتيبة