د. محمد دويدار: الأزمة الاقتصادية فى مصر ناتجة عن نقص الإنتاج وليس عجز الموازنة.. والعلاج يبدأ بالزراعة المهملة منذ ٥٠ عاماً
محمد دويدار
إذا تحدث عالم الاقتصاد المصرى المرموق الدكتور محمد دويدار، أستاذ الاقتصاد السياسى بجامعة الإسكندرية، وجب أن نسمع وننصت له حتى وإن اختلف معه بعض تلاميذه، وهم بالآلاف فى مختلف دول العالم.. «دويدار» ينتمى لمدرسة فكرية تختلف أهدافها ووسائلها فى تحقيق التقدم والتنمية عن كثير من التيارات السائدة.. هو بإيجاز يؤمن بأن الأزمة الاقتصادية فى مصر ناتجة عن نقص الإنتاج وليس عجز الموازنة، وأن العلاج يبدأ بالزراعة التى تهملها الدولة منذ ٥٠ عاماً، ولا يطمئن إلى نصائح صندوق النقد، ويعتقد أنه لا يوجد بديل عن خطة تنموية إنتاجية تناسبنا نحن، بغض النظر عن وصفات الصندوق والبنك الدولى وغيرهما من المؤسسات التابعة للولايات المتحدة الأمريكية، كما يحذر مما أسماه «خطر الغرب علينا» لأن الدول الغربية تسعى منذ الحملة الفرنسية لضرب اقتصادنا ونهب ثرواتنا، ويصر على أن للدولة دوراً مهماً يجب ألا تتخلى عنه بدعوى أن اقتصاد السوق قادر على تنظيم نفسه بعيداً عن الحكومات، ويؤكد أن أهم أدوار الدولة هو التخطيط الذى كان السر فى بناء قوى الصين والاتحاد السوفيتى، بل والولايات المتحدة، وحتى الشركات العابرة للقارات.
ويعتقد «دويدار» أن تحقيق الحد الأدنى من الأمن الغذائى فريضة بعد أن سبقتنا الدول الغنية لتحقيق «السيادة الغذائية» وليس مجرد الاكتفاء الذاتى، ويرى أن مصر بلد غنى ولديه مقومات الانطلاق لكن سيطرة رأس المال التجارى المخرب تحول دون ذلك، لأن هدفه الربح السريع لا الإنتاج.
وإلى نص الحوار.
عالم الاقتصاد البارز لـ«الوطن»: رأس المال التجارى مخرب وهدفه الربح السريع لا الإنتاج
بداية لماذا تنتقد جهود الحكومة فى مساعيها المختلفة لإصلاح مسار الاقتصاد؟
- لأن الحكومة ليست بالأساس على الصراط المستقيم، فالأزمة الاقتصادية فى مصر ناتجة عن نقص الإنتاج وليس عجز الموازنة، وعلاج هذه الأزمة يكمن فى أن تلعب الدولة دورها المتمثل فى التخطيط لزيادة كل قطاعات الإنتاج من خلال سياسات تشمل الاستثمار والإنتاج والتجارة والعمالة والأثمان والسياسات المالية والنقدية، أى سياسات شاملة ومستقبلية.. وإذا لم يتم بحث كل هذه الأمور مع بعض يبقى كلام فارغ، لكن الحادث أن صندوق النقد يضغط علينا من أجل تصفية ما تبقى من القطاعات الإنتاجية للدولة، والحكومة غارقة فى الاهتمام بالسياسات المالية والنقدية دون أى اهتمام بالإنتاج أو التخطيط، وهذا ليس جديداً، فوزير الزراعة الأسبق، يوسف والى، قال منذ نحو 20 عاماً إن الدولة ليس لها دور فى قطاع الزراعة، فهل هذا معقول؟
وما الخطأ فى كلام يوسف والى؟
- هذا كلام يناقض كل ما له صلة بالعلم، نابليون بونابرت، الذى درس علماؤه مصر بدقة فى أثناء الحملة الفرنسية، قال إن الزراعة المصرية «اصطناعية وليست بنت الطبيعة»، لأنها غير متوقفة على الأمطار وبحاجة إلى ثلاثة شروط كى تنجح: أولاً الحرص على توافر المياه بالسيطرة على النيل، والعمل على توصيل المياه للحقول لأن مستوى النيل أكثر انخفاضاً من مستوى الوادى، وبالتالى من الضرورى وجود شبكة ترع لتوصيل المياه للأراضى، أما الشرط الثالث فهو العمل على الترشيد فى استخدام المياه، ولتوفير هذه الشروط ينبغى أن تتمتع الدولة بكفاءة إدارية، وألا تكون فاسدة، وأن تكون قوية سياسياً، لا توجد زراعة ناجحة دون تخطيط من الدولة، ولا توجد سياسة اقتصادية ناجحة أو تنمية بدون زراعة، ولكن الحكومة تهمل الزراعة وتهمش التخطيط.
«مرسى ورجاله» ركزوا على صفقات لا قيمة لها فى «بكين» بدلاً من الاستفادة من تجربة الصين فى التنمية
لكن مؤسسات دولية كبيرة ومنها صندوق النقد الدولى تؤكد أن مصر تسير على الطريق السليم، وتدلل على ذلك بعدة مؤشرات منها تحسن أوضاعنا النقدية وارتفاع الجنيه نسبياً أمام الدولار.
- كيف يمكن أن يتحسن وضع الجنيه بمجرد الاقتراض وحين يحل موعد السداد تتجدد المشكلة؟ لا يوجد بديل عن خطة تنموية إنتاجية تناسبنا نحن، بغض النظر عن وصفات صندوق النقد والبنك الدولى وغيرهما من المؤسسات التابعة لهيمنة رأس المال الأمريكى، فاليوم أصبحت يد الحكومة فى جيب كل مصرى من خلال النظام الضريبى والتضخم، حتى إن صندوق النقد الدولى «الذى يدعى أنه خبير الخبراء صرح بعد تعويم الجنيه بأنه لم يكن متوقعاً أن يرتفع التضخم إلى هذا الحد»، إذا كان الصندوق قد عجز عن التوقع فمن يتوقع إذن؟ اقرأ كتاب «الاغتيال الاقتصادى للأمم» الذى يبرهن على أن «الصندوق» والبنك الدولى يسعيان للإيقاع بالأمم فى فخ الديون.
لكن هناك دولاً حققت طفرات باتباع وصفات صندوق النقد وكان لدعم أمريكا أثر إيجابى على اقتصاداتها.
- يجب ألا نقارن بين أوضاعنا وأوضاع دول أخرى، لأن المقارنات عادة ما تكون مخلة وسطحية، ويجب أن نعلم أن رأس المال الدولى له أولويات متباينة فى دول العالم المختلفة، فمثلاً دول شرق آسيا كان الهدف من اقتصاداتها على مدى أكثر من 20 سنة هو مواجهة الصين وإبعادها عن النموذج التنموى المتبع هناك، فيما كان الهدف فى أفريقيا تجريفها من ثرواتها الطبيعية، والهدف من منطقة الشرق الأوسط وشرق أوروبا التفكيك لتحقيق مصالح هذه الدول، كل منطقة لها ظروفها، ومن يأتى ليقول مثلاً ماليزيا تقدمت أقول له: ماليزيا على حجر أمريكا أما نحن فعلى طرف قدمها التى تشوط بها الآخرين، وعدوان رأس المال الغربى علينا كان وما زال أحد أسباب تخلفنا على مدار أكثر من 200 سنة.
«عبدالناصر» كان يمثل الجناح الوطنى للطبقة الوسطى لكن نظامه كان فى جوهره نوعاً من رأسمالية الدولة ولا صلة له بالاشتراكية
كيف ذلك؟
- أول عدوان مباشر لرأس المال الأوروبى على مصر تمثل فى الحملة الفرنسية عام 1798، ثم ضرب الدولة المصرية بتجمع رأسمالى أوروبى قادته بريطانيا فى 1839 - 1840، ثم العدوان العسكرى البريطانى واحتلال مصر فى 1882، ثم العدوان العسكرى الثلاثى على مصر فى 1956، ثم التهديد المستمر للمنطقة من خلال إسرائيل، ثم إرهاب رأس المال الأمريكى، بالأصالة، المتمثل فى غزواته العسكرية للبلدان العربية، مثل لبنان فى 1958، ثم العدوان العسكرى على مصر فى 1967، ثم الغزو العسكرى للصومال، ومن بعدها أفغانستان، ثم غزو العراق فى 2003، وتفكيك الجيش العراقى ونهب آثاره وثرواته، والعمل على تهجير القوة العاملة المؤهلة علمياً وتكنولوجياً نحو الولايات المتحدة الأمريكية وغيرها، ثم احتضان رأس المال الأمريكى للإرهاب بالوكالة عن طريق الجماعات المسلحة المتأسلمة، بمساعدة بعض الحكومات القائمة فى البلدان العربية.. بسبب هذه السياسات العدوانية تظل شعوب المنطقة مهددة بالترويع وتخريب ما بنته القوى العاملة العربية المحلية والمهاجرة، وتستنزف فوائض الاقتصاد لشعوب المنطقة فى شراء بضائع وصناعات السلاح فى الغرب، أليس غريباً أن تكون دول عربية هى أكثر بلدان العالم شراء للأسلحة، التى لا تمس مصالح الغرب ولا إسرائيل فى المنطقة، وكل هذا يتم فى تناغم وكأنه «أوركسترا أمريكية» لضرب الحكومات العربية بعضها البعض على النحو الذى أنتجه المؤتمر الذى نظمته واشنطن فى الرياض بقيادة الرئيس الأمريكى، وأنتج بسرعة مذهلة المزيد من الصراع حتى فى داخل المجموعة الخليجية.
أفهم من كلامك أن الاستعمار الغربى هو سبب تخلفنا؟
- الأدق أن نقول إن جعل الاقتصاد المصرى ترساً لخدمة الاقتصاد الغربى هو سبب التخلف الاقتصادى، والحقيقة أن الثورة الصناعية فى أوروبا كانت وبالاً علينا وعلى الجزء المتخلف من العالم المعاصر.
لا يوجد بديل عن خطة تنموية إنتاجية تناسبنا بعيداً عن وصفات صندوق النقد والبنك الدولى الخاضعين للهيمنة الأمريكية
وكيف حدث ذلك؟
- التخلف كان نتاج التوسع الاقتصادى الرأسمالى عالمياً، هذا التوسع كانت له أشكال عدة، من بينها استعمار البلدان بالقوة العسكرية، أو إدخال البلدان فى نمط للعمل تتبع فيه اقتصاديات هذه الدول القوى الرأسمالية، وسأعطيك مثالاً للتوضيح، حتى دولة محمد على باشا كانت مصر مكتفية غذائياً، وكانت بمثابة مزرعة الشرق فى القمح، فالساحل الشمالى كان عبارة عن سلة غلال روما، وكنا نستورد أقطاناً من سوريا لصناعة المنسوجات المصرية، قبل أن يهتم محمد على بزراعة القطن فى مصر، وكما هو معروف فنياً فإن زراعة القطن تمنع زراعة الأرض بالقمح مستقبلاً، فالقمح يُزرع فى مصر بدءاً من نوفمبر إلى مايو، فى موسم الزراعة الشتوية، والقطن يُزرع بدءاً من فبراير إلى أكتوبر، وبالتالى فإن إدخال القطن كمحصول رئيسى فى عهد «محمد على» أضر بالأمن الغذائى لمصر، كان هذا القرار هو البداية لتحول مصر لبلد غير مكتف غذائياً، بعدما تخصص فى القطن لخدمة مصانع «يورك شاير» فى إنجلترا، فقد بدأنا نستورد القمح وزاد الوضع سوءاً حينما حُكم على محمد على بتسريح الجيش فى معاهدة لندن 1840، وتم إغلاق صناعات كثيرة منها صناعة المنسوجات، وبالتالى دخلنا فى نمط مختلف لتقسيم العمل لم نخلقه نحن، بعدما تحولنا من مرحلة الاكتفاء غذائياً إلى تصدير القطن دون غزله ونسجه، وبهذا الشكل أدخل رأس المال الغربى مصر مثل باقى المستعمرات الأخرى فى العالم فى مرحلة تقسيم العمل لخدمة مصالحه لا مصالح المستعمرة، وتحولت معظم بلاد العالم المتخلفة إما إلى دول مصدرة للمواد الأولية، أو مصدرة جزئياً لنوع من الغذاء الذى لا يتم إنتاجه فى أوروبا، أو بعض الصناعات الطفيفة، والحقيقة أن القطن كان أحد الأسباب التى جذبت «بونابرت» لغزونا.
يعنى زراعة القطن كانت أحد أهداف الحملة الفرنسية على مصر؟
- نعم، كان أحد أسباب الحملة الفرنسية على مصر هو تحويلها إلى مزرعة للقطن، نظراً لأنه محصول غير أوروبى ولا يمكن زراعته هناك، فرنسا كانت تحتل بعض الولايات المتحدة الأمريكية وحينما استقلت الولايات المتحدة، بعد سلسلة حروب انتهت بهزيمة باريس وطردها من هذه الولايات، كان من نتيجة ذلك أن فقدت فرنسا ولايتين كانتا تزودان صناعة النسيج الفرنسية الوليدة بالقطن، ما دفع فرنسا للبحث عن بديل، وهداهم سعيهم إلى مصر، وقالوا: «نضرب عصفورين بحجر واحد».. إقامة مزرعة للقطن فى مصر، وقطع الطريق إلى الهند على عدوتها بريطانيا، ظروفنا المناخية جعلتنا نطور صنفاً هو من أجود أنواع الأقطان، وهذا التخصص حرم مصر من بدائل غذائية أخرى، وجعلها تابعةً للخارج غذائياً.
لا يوجد «اقتصاد إسلامى».. وتحريم الربا ليس قاصراً على الإسلام لأن كل الحضارات والأديان اتخذت موقفاً رافضاً له
دعنا إذن نسأل عن نقطة بداية لإصلاح أوضاعنا الاقتصادية من وجهة نظرك؟
- أن نشخص أوضاعنا وإمكاناتنا بدقة، ومن يفعل ذلك، مثلما فعلت على مدار سنوات، سيكتشف أن لدينا كثيراً من العوامل المواتية لتحقيق التنمية، فلدينا إقليم من أكثر أقاليم العالم تنوعاً فى الثروة الطبيعية، والمناخ الذى يسمح بتعدد الأنشطة الاقتصادية، ولدينا أيضاً ثراء سكانى بشرط تطوير القوى العاملة بدلاً من السعى لتصديرها، فخلال الثلاثين عاماً الماضية قمنا بتصدير العمالة المؤهلة لـ«اللى يسوى واللى مايسواش»، حتى إنهم أصبحوا مصدر تهديد لنا من خلال تهديد هذه الدول لنا بطردهم، العامل الثالث يتمثل فى الرغبة الشعبية السياسية فى التغيير، كما ظهر فى يناير 2011، فما الذى يمنع إذن من تحقيق تنمية وتقدم؟
ما الذى يمنع من تحقيق تنمية وتقدم؟
- ما يمنع هو وجود طبقة نافذة فى البلد من مصلحتها السيطرة على رأس المال التجارى، ورأس المال التجارى مخرب، لأن هدفه الربح السريع لا الإنتاج، الرئيس المعزول محمد مرسى حينما ذهب إلى الصين، اصطحب معه مجموعة من رجال الأعمال ومنهم حسن مالك وعقد صفقتين، الأولى مع شركة لطفايات الحريق، رغم وجود شركات محلية قوية فى مصر، الصفقة الثانية كانت مع شركات صينية لإنتاج الأجهزة المنزلية الكهربائية، فيما نحن لسنا بحاجة إليها، هذا ما فعله رأس المال التجارى حينما ذهب رواده مع رئيس الجمهورية فى زيارة للخارج، فلم ير كيف أصبحت الصين أكبر قوة تصديرية فى العالم، ولم يسأل نفسه كيف تحولت الصين إلى قوة كبرى، هذا ما يحدث حين يكون انتماؤك للسوق الرأسمالى العالمى دون وجود استراتيجية تنموية قادرة على تبديد التخلف الذى نعيش فيه، جهل المسئولين سبب آخر لتخلفنا.
الزراعة تضررت من بعض سياسات «ناصر» الخاطئة لكنها أُهملت تماماً بعده
ماذا تقصد؟
- أقصد أنه من النادر أن تجد مسئولاً يقرأ... هناك تجارب تنموية متنوعة فى العالم منذ نهاية الحرب العالمية الثانية، منها «استراتيجية التطوير المخطط»، الخاصة بالاتحاد السوفيتى، و«استراتيجية الاعتماد على الذات عبر تحرير الريف»، ومحوره البناء، عبر التخطيط الاقتصادى والاجتماعى، وهذه الاستراتيجية خلقت من الصين قوة اقتصادية إقليمية ثم عالمية تناطح كل اقتصاديات الغرب، وكذلك «استراتيجية الإنتاج من أجل التصدير»، التى ساندتها قوى الغرب، وقذفت باقتصاديات جنوب شرق آسيا فى أزمة نهايات التسعينات من القرن الماضى المعروفة بأزمة «النمور الآسيوية»، وهناك أيضاً استراتيجية «التصنيع بهدف إحلال الواردات» التى عرفتها مصر منذ ثورة 1919.
وأتساءل: لماذا لا يدرس المسئولون هذه الاستراتيجيات؟ فالنظريات ليست حكراً على أصحابها، بل ملك للبشرية جمعاء، وكل هذه النظريات شرحتها بالتفصيل فى كتبى، لكن لا أحد يهتم ويقرأ، مقومات السياسة الاقتصادية لأى دولة تتكون من السياسة الادخارية، وسياسة الاستثمار، وسياسة الإنتاج، وسياسة عمالة، وسياسة نقدية، وسياسة مالية، وسياسة تجارية، وأتساءل: من يجمع اليوم بين هذه السياسات أثناء وضعه للسياسة الاقتصادية للدولة؟ وهذا يثبت أنهم غير جادين، وتاركون الأمور للسوق الرأسمالية للسيطرة على السوق المحلية لتتبع قوى السوق، وهذا ما أسميه بـ«السياسة الجهجهونية» فى عصر «الدربكة الكبرى» الذى نعيشه.
إذا كانت الزراعة بهذه الأهمية فلماذا أُهملت؟
- الزراعة أُهملت فى مصر بعد الفترة الناصرية، وجمال عبدالناصر كان مهتماً بالزراعة لكنها كانت إحدى ضحايا سياسات الثورة بسبب أخطاء نُفذت من بينها الكيفية التى جرى بها تنفيذ قانون الإصلاح الزراعى الذى أفاد أغنياء الريف فقط، وإجمالى ما وُزع على الفلاحين لم يتجاوز 11% من أراضى مصر، وكان معظم هذه النسبة من الأراضى مملوكة لأسرة محمد على، واقتصرت عضوية الجمعيات الزراعية على الفلاح، الذى يجيد القراءة والكتابة، ولم يكن هذا الشرط متوافراً فى معظم فلاحى مصر، وبالتالى اقتصرت فوائد الجمعيات على الطبقة القادرة من الفلاحين، وحينما تم تعديل قانون الإصلاح الزراعى سنة 1967، تم التعديل لمصلحة المالك على حساب المستأجر، بجعل عقد الإيجار مؤقتاً لا أبدياً كما كان، فكان القانون مشروعاً لرأسمالية الدولة لا لدولة اشتراكية.
معنى ذلك أن نظام عبدالناصر لم يكن اشتراكياً كما نردد دائماً؟
- عبدالناصر كان يمثل الجناح الوطنى فى الطبقة الوسطى، ودوره الرئيسى كان تعبئة الشعب المصرى من خلال دوره الوطنى وليس الاجتماعى.. فى فرنسا عام 1964 كتبت مقالاً لمجلة علمية عن التطورات الاقتصادية فى مصر منذ 1952، وقلت إن ما يحدث فى مصر من قبيل رأسمالية الدولة ولا يمت بصلة للاشتراكية، وإن ملكية الدولة عارض لن يدوم، وقد حدث ما توقعته وانتهت التجربة ببيع شركات الدولة، عرق المصريين وكفاحهم من قبل الحرب العالمية الأولى وحتى السبعينات من القرن الماضى ذهب هباء نتيجة برامج خصخصة فاسدة.
تقول إن مصر بلد غنى لكن ثرواته مهدرة، لكن بعض تلاميذك ومنهم وزير التخطيط الأسبق عثمان محمد عثمان، يعتقدون أن مشكلة مصر الحقيقية أنها بلد فقير فى موارده خصوصاً الطاقة والمياه.
- أى نوع من الطاقة وأى مصدر للمياه يتحدثون عنه؟ مصر مثلاً من أكثر دول العالم تعرضاً للشمس، ونستطيع أن نستفيد من هذه الطاقة لتعويض أى نقص أو فقر فى أنواع الطاقة الأخرى، وإذا كانت حصتنا من مياه النيل باتت مهددة فلدينا محطات تحلية مياه البحر.
وهل هناك «اقتصاد إسلامى»؟
- فى رأيى لا يوجد اقتصاد إسلامى.. جوهر أى نظام هو الإنتاج ووسائله، وبالتالى السيطرة على القوى العاملة وتحديد «على مَن يعود الفائض؟».. والإسلام لم يقدم نظرية خاصة به تتناول هذه القضايا.. الإسلام خلق نظاماً سياسياً وقانونياً تحقق من خلال استقرار الاقتصاد، وفقاً للنظم التى كان معمولاً بها فى الدول التى دخلها ولم يبتدعها، طبعاً لدى الإسلام تفاصيل أخلاقية مثل «أعط الأجير أجره قبل أن يجف عرقه»، لكن لا توجد قواعد عامة، وإذا كان هناك من يختلف معى فليجب عن السؤال التالى: هل تغير النظام الاقتصادى المصرى الذى كان سائداً فى مصر بعد دخول عمرو بن العاص؟ من يقرأ المقريزى وابن الحكم يتأكد أنه لم يحدث أى تغيير جوهرى.
لكن تحريم الربا مثلاً ليس تغييراً ثانوياً؟
- تحريم الربا والفائدة ليس قاصراً على الإسلام، فهو موجود فى كل الحضارات والأديان بما فيها اليهودية، وبدأ مع أرسطو الذى قال كلمته الشهيرة إن «النقود لا تلد وبالتالى لا يجب أن يترتب عليها فائدة»، وقانون حمورابى فى العراق يحرم الربا، ومرجع التحريم ببساطة أن الربا يشجع ببساطة على عدم توظيف رأس المال إيجاباً فى الإنتاج، ولأن الكنيسة كان لها موقف متشدد من رفض الربا انفرد اليهود الذين فسروا نصوص التوراة بشكل يسمح بالربا لغير اليهود، بتقديم الأموال والحصول على فوائد للتجار والصناع، وبالتالى احتكروا صناعة الصرافة فى أوروبا ثم العالم.
فى الجزيرة العربية حيث ظهر الإسلام كانت التجارة هى النشاط الرئيسى، ولم يكن مقبولاً للتجار أن يقاسمهم أصحاب الأموال فى الربح عن طريق تقنين الربا، فكان طبيعياً أن يحرم الإسلام الربا مثل باقى الأديان، وهذا هو السبب فى أن الرأسماليين الكلاسيكيين، ومنهم آدم سميث، أخذ موقف معاداة من الإقطاعيين وأصحاب الدخول الريعية، (يحصدون من حيث لم يبذروا)، والفائدة، لكن تغير هذا الاتجاه فى وقت لاحق بهدف تشجيع المدخرات التى هى أساس الاستثمار الآن.