كان موعدنا اليوم مع مقال «المعونة الأمريكية.. ومراجعات واجبة»، استكمالاً لمقالنا السابق (الحليف الأسوأ.. وسقوط «صفقة القرن»)، لكن اضطرابات إيران فرضت نفسها، وأجلت ما هو مقرر.
شعارات المتظاهرين تعكس مبررات الغضب؛ ارتفاع الأسعار، الفساد، إهدار الثروات لـ«تصدير الثورة».. لم تبدأ بمناطق الأقليات القومية، إنما انطلقت شرارتها من مشهد، حيث السكان الأصليين، ومعقل المتشددين، ولذلك دلالاته.. ولأول مرة ترتفع شعارات تمس أيديولوجية النظام، ترفض ولاية الفقيه، وتطالب بسقوط المرشد، حتى فى قلب «قم»، معقل الملالى.. مفهوم «الجمهورية الإسلامية» طاله الغضب، وفجر الحنين لنظام إمبراطورى لفظوه منذ 39 عاماً، ناشدوا الشرطة الانضمام إليهم لمواجهة الحرس الثورى، مخاطرين بحرب أهلية.. إيران على سطح صفيح ساخن.
الاعتبارات الاقتصادية كانت على رأس العوامل المحركة، الغلاء ورفع أسعار المحروقات وزيادة الضرائب كانت الشرارة، مدخرات المواطنين ضاعت نتيجة لإفلاس البنوك والمصارف، التضخم يتزايد بـ1.5% شهرياً، والبطالة 3.2 مليون بنسبة 12.4%، قطاع النفط يحتاج لاستثمارات 200 مليار دولار لتطوير نشاطه، وتحديث بنيته، روحانى شجع الاستثمارات الأجنبية، لكنها ظلت تراقب الأوضاع، وتأكد عدم ملاءمتها، الدولة خلال ثلاثة عقود نقلت ملكية معظم مؤسساتها الاقتصادية إلى الحرس الثورى، ليهيمن على قطاعات النفط والغاز والاتصالات والتشييد والتعدين والبتروكيماويات والفنادق والنوادى، إضافة للصحة والزراعة، وشركاته تضم 160 ألف عضو، تستغل نفوذه فى ممارسة الفساد، وإعاقة الاستثمار تجنباً للمنافسة، ضخامة مخصصاته عبء على الميزانية، خاصة بعد رفعها لـ7.6 مليار دولار لـ2018.. القمع والتضييق والتمييز، وإهدار حقوق المرأة، أسباب إضافية، ومقاطعة الملالى لموسم الحج، أثارت الغضب، لإسقاطه فريضة قد لا يتسع العمر لأدائها.. الغضب الساطع آتٍ.
النزعات القومية من العوامل الرئيسية للتذمر بالمحافظات الحدودية، بلوشستان وسيستان بالشرق، يضمان جماعات مسلحة جهادية سنية، حفرت الأنفاق على الحدود لتهريب أسلحة ومتفجرات من باكستان وأفغانستان للداخل.. الأذريون «الشيعة»، والتركمان «السنة»، فى الشمال، أضحوا أقرب لتركيا، من وطنهم.. الأكراد تخلوا عن الكفاح المسلح، لكنهم لم ينالوا حقوقهم.. الأهواز بسُنّتها وشيعتها تشهد مظاهرات دائمة تنقلب لاشتباكات مع الأمن.. عمليات الجماعات المسلحة توقع عشرات الضحايا من الحرس والقوى الأمنية وحرس الحدود، ما أطاح برئيس الأركان يونيو 2016، وبقائد الجيش أغسطس 2017، ولم يتحسن الأداء، لأن القضية تحتاج لمعالجات سياسية.. خامنئى حذر البرلمان من احتمالات التفكك القومى.
الزعم بدور أمريكى أو سعودى لتحريك الأحداث لا أساس له، حتى لو اقترن بتهديدات لـ«ترامب»، أو وعيد لـ«بن سلمان»، لا أحد يمتلك قدرة تحريك الأوضاع بإيران، لكنها الإدارة السياسية، من يعرف قوتها، ويجيد توظيفها، ليس فى حاجة لأساليب أخرى، أمريكا أجادت، وساعدتها الأوضاع.. الصراع بين الجناح المتشدد والمعتدل قائم منذ بداية الثورة، وانتقل منذ سنوات لمؤسسات السلطة.. خامنئى، زعيم المتشددين، يتمتع بأغلبية البرلمان، ومجلسى الخبراء، وتشخيص مصلحة النظام، يتبعه الحرس الثورى والمنظومات الأمنية والعسكرية.. روحانى يتزعم المعتدلين، تتبعه مؤسسة الرئاسة والمؤسسات السيادية للحكومة.. التوازن داخل النظام السياسى أصبح هشاً، لانشغالهما بالتطاحن، وعجزهما عن الإصلاح الاقتصادى ورفع مستوى المعيشة، روحانى تحدى خامنئى «شرعية القائد الأعلى يحددها الجمهور» لا ولاية الفقيه، ولا عصمته، وخامنئى ذكَّره بمصير أبوالحسن بنى صدر، أول رئيس للجمهورية، الذى أقيل وفر هارباً إلى باريس، فى تهديد صريح للرئيس.. نائبه إسحق جهانجيرى اتهم المتشددين صراحة ببدء الاحتجاجات، لكنهم فقدوا السيطرة، وحذر: «من يقفون وراءها سيحترقون بنيرانها».
أمريكا استهدفت من الاتفاق النووى تعزيز موقف المعتدلين، لكن الانتخابات مكنت المتشددين، ما يسقط مبرر الاتفاق، خاصة بتوسيع إيران لبرنامجها الصاروخى كبديل للقيود المفروضة على النووى، ووصول صواريخها للمجال الجوى للرياض وأبوظبى.. واشنطن راهنت على إمكانية دفع روحانى ليخلف خامنئى (79 عاماً) كمرشد أعلى، مما يسمح بإجراء تغييرات جذرية بالنظام، إلا أن خامنئى بدأ يمهد لاختيار خليفته من الصقور، استمراراً لتوجهات النظام.. أمريكا نسقت مع إيران فى حرب «داعش»، وبانتهائها اتجهت لإعادة ترتيب الأوضاع بالمنطقة، وكسر الطوق الذى فرضته طهران حول إسرائيل والسعودية، بوجودها فى العراق وسوريا ولبنان وقطر واليمن وغزة.. قبل أن تنهى «داعش» معركة الموصل يونيو 2017، قامت بأول هجوم على طهران، فى عملية تحويل أمريكية لميدان المعركة، وفقاً لأهداف المرحلة.. سيطرة ميليشيا الحشد وحزب الله على مدينة البوكمال، نوفمبر الماضى، اعتبرته واشنطن تطوراً خطيراً لسياسة التمدد الإيرانى، لموقعها الاستراتيجى الذى يربط حدود العراق بسوريا والطريق المؤدى إلى لبنان.
الاعتبارات السابقة دفعت أمريكا لمحاولة دفع نظام الملالى للانكماش داخل حدوده من خلال خمسة إجراءات سياسية.. الأول: تجديد مجلس الشيوخ للعقوبات على إيران لـ10 سنوات.. الثانى: فرضت وزارة الخزانة حزمة جديدة من العقوبات، استهدفت الكيانات التى تدعم إنتاج الصواريخ الباليستية.. الثالث: رفض ترامب إعادة التصديق على الاتفاق النووى، ووصفه بـ«أحد أسوأ الاتفاقات فى التاريخ الأمريكى».. الرابع: تأكيد نيته مواجهة الطموحات الإيرانية بالشرق الأوسط.. الخامس: إعلان الحرس الثورى -لأول مرة- كمنظمة إرهابية.. إجراءات سياسية أدت لانسحاب الشركاء التجاريين فى أنشطة الحرس التى تتجاوز 100 مليار دولار، خوفاً من العقوبات، وأنهت اهتمام المستثمرين بسوق غير مستقر، عززت موقف المتشددين، وأسقطت مرتكزات قوة المعتدلين، وأخرجت الصراع بينهما لمرحلة الصدام المباشر والعلنى.. فاقمت المعاناة.. بددت الآمال.. فاشتعلت الاضطرابات.
التطورات الراهنة تطرح تداعياتها على مستقبل الحكم فى إيران، وتطور الأوضاع بالمنطقة.. الموقف متدهور، أجبر عضو مجلس الخبراء المتشدد آية الله أحمد علم الهدى الذى حذر بداية الأحداث من التساهل مع مثيرى الشغب، على التراجع وتبرير مطالبهم: «تظاهرات الغلاء لها ما يبررها».. استمرار الاضطرابات رغم تحريك عشرات الألوف من المؤيدين يعنى امتداد عدم الاستقرار لفترة ليست بالقصيرة، اضطرابات 2009 استمرت ثمانية شهور، والتداعيات مفتوحة لكل الاحتمالات، خاصة إذا ما تكثفت الضغوط الدولية.. المتشددون لن يستسلموا بسهولة، والحرس والباسيج فى انتظار الإشارة.. فى كل الأحوال، إيران المقبلة، غير التى نعرفها، حتى لو استعاد الملالى سيطرتهم.. طهران ستضطر لتعديل استراتيجيتها، للحد من تدخلاتها بسوريا والعراق، وخفض معدلات الدعم لحزب الله والحوثيين وحماس وشيعة البحرين، والالتفات للداخل، ما يعنى تغيُّرات أساسية فى التوازنات.. المتشددون يرفضون التفاهمات الإيرانية مع أمريكا بنفس قدر تحفظهم على التفاهمات الروسية الإسرائيلية، لإبعاد قواتهم عن جنوب سوريا.. الوجود الإيرانى بالمنطقة من نقاط المساومة الأمريكية لترتيبات ما بعد الحرب، روسيا بوتين بتوجهاتها البراجماتية تشترى مصالحها، النفوذ الإيرانى ينحسر، بانتهاء هدنتها مع أمريكا، وبرودة تحالفها مع روسيا، أزمة السعودية فى اليمن وقطر تنفرج، ومصر لاعب رئيسى بالمنطقة، إذا ما كشرت عن أنيابها.. انتبهوا أيها السادة.. فالمنطقة تعبر جسراً من الجمر!!