أكتب هذه السطور صباح الاثنين ١٥ يناير إثر أن عاشت مصر كلها فرحة عيد الميلاد المجيد للسيد المسيح (عليه السلام)، وفرحة إخوة الجماعة الوطنية بكاتدرائية «ميلاد المسيح» التى بنتها الدولة من ميزانيتها، وحضور السيد الرئيس معهم فيها حفل الافتتاحية وفرحة العيد المجيد.. هذه هى مصر، تتجاوز كل مؤامرات الإرهاب ومن جاراه، وتكشف عن معدنها الحقيقى، لترعى شجرة المحبة والوحدة الوطنية، وهى أيضاً شعور ومسئولية، نتشارك جميعاً فيها، ويحملها كل واحد منا.
مسئولية كل فرد
مسئولية التصدى للتعصب ورعاية شجرة وحدة الجماعة الوطنية هى مسئولية كل فرد من تبصير وتنوير وتعبير، تعبيراً صادقاً، فاعلاً ومؤثراً، عن أن إيمانه بحتمية وضرورة الوحدة الوطنية، وأن الاضطلاع بمسئوليتها الكبرى قائم على مزيج من المحبة والشعور وتقدير المسئولية.
قضية الكشح
فى أغسطس 1998، منذ نحو عشرين عاماً، امتحنت الوحدة الوطنية فى محافظة سوهاج امتحاناً عسيراً، فيما عُرف بقضية الكشح، وخلاصتها أن أصابع الاتهام الظاهرية أثارت الشكوك حول قبطى أنه الفاعل فى جريمة القتل التى استيقظت عليها القرية لتجد اثنين من أقباطها قتيلين، ودارت الشكوك حول «شيبوب وليم أرسل»، ويبدو أن الضبطية ارتاحت لأن يكون قاتل المسيحى مسيحياً، فذلك يئد الفتن التى يمكن أن تشتعل إذا ما كان القاتل مسلماً، بيد أن الارتياح تحول لديها إلى يقين، أوقع فى تجاوزات مؤسفة قِبَل أسرة المتهم وذويه، بمظنة أن الضغط سوف يكشف عن أدلة لحادث انعدم فيه الدليل أو يكاد، ومضت سفينة التجاوزات معصوبة العينين إلى ما تعتقد أنه الحقيقة، وكلما أمعن المنكرون فى الإنكار، أمعنت التجاوزات فى الشطط حتى صارت أحدوثة واجبة البيان والإيضاح.
لم أتردد
لم أتردد فى قبول القضية، والدفاع عن المتهم القبطى بما يستلزمه من بيان لما جرى مع ذويه المسيحيين من تجاوزات مفزعة ومؤسفة، وهو واجب ألزم للمحامى المسلم من المحامى القبطى الذى قد يستشعر حرجاً، أو يُقابَل دفاعه بأنه محض انحياز طائفى.
كان قبولى لمهمة الدفاع نابعاً من اقتناعى ببراءة المتهم بعد أن طالعت القضية بإمعان، ومستمداً من مزيج من الشعور وتقدير المسئولية، وبذلت فى دراسة القضية والمرافعة فيها أقصى مستطاعى، حتى إننى ختمت المرافعة بما يرفع مظنة أن أكون مسيحياً ينطلق من موقف طائفى، فاسم الشهرة قد يوحى بذلك، فقلت لهيئة المحكمة وأنا أتهيأ لترك المنصة لمن بعدى: «أنا اسمى محمد رجائى عطية».
مقال الأستاذ ميلاد صاروفيم المحامى بجريدة «وطنى» المسيحية
فوجئت فى مارس 2000 بمن يخطرنى بأن الزميل الأستاذ ميلاد صاروفيم، المحامى والمترافع إلى جوارى فى القضية، قد كتب مقالاً عن مرافعتى بجريدة «وطنى» المسيحية (عدد 19 مارس 2000)، وأنه تصدرها عنوان «سَمَاوى» بأعلى الصفحة الأولى يقول: «من أوراق هيئة الدفاع فى قضايا الكشح: أنا اسمى محمد رجائى عطية». أرسلت لشراء العدد من مقر مجلة «وطنى» القريب من مكتبى، لأطالع ما سطره المحامى القبطى الزميل الأستاذ «ميلاد صاروفيم»، وأميز ما سطره أنه جاء تعبيراً عن وحدة الجماعة الوطنية التى تشغلنا معاً، كتب يقول فى مقاله: [كان طبيعياً عندما أُنْبئنا بانضمام الأستاذ الكبير رجائى عطية المحامى إلى صفوفنا فى هيئة الدفاع فى قضية الجناية المتهم فيها «شيبوب وليم أرسل» المسيحى بقتل كرم تامر وسمير عويضة المسيحيين، وهى القضية المعروفة بقضية (الكشح الأولى) التى وقعت أحداثها فى 14 أغسطس 1998 أن نستقبل انضمامه إلينا مرحبين به زميلاً جليلاً تفخر به المحاماة.. ثم لنفسح له يوم جلسة نظر القضية يوم 5 مارس 2000 أمام محكمة جنايات سوهاج مكان الصدارة فينا ليتبوأه. حيث وقف، إثر انتهائى من مناقشة مقدم الشرطة أبوالفضل ثابت، الذى كنت قد طلبت حضوره، وقف شامخاً كعهد ساحات القضاء به، ثابت الجأش، ليضع أوراق الدعوى أمامه لتكون مرجعه فى الأمر الذى جاء من أجله وفى يده زمامه.. ثم ليبدأ مرافعته بغير مقدمات من صميم الدعوى.. دفوعاً صَوَّبَها متلاحقة، الدفع إثر الدفع، أملتها عليه دراسته لدقائق الدعوى نحو إجراءاتها لتبدو بعد باطلة. ثم إنه انتقل من إجراءات الدعوى إلى موضوعها، متناولاً أوراقها ورقة ورقة، عارضاً فى براعة أوجه الضعف فيها من مركز القوة.. وقد دانت له دقة الأداء، يطوق بها وبه وقائع الدعوى وفى أدق تفاصيلها، متنقلاً من واقعة إلى واقعة، طَرْقاً متلاحقاً مخافة أن يضيع أثره.. دون أن يتوقف أو يعثر.
ساعتان ونصف الساعة تماماً، والأستاذ الكبير طائرٌ يحلق فى سماء الدعوى، يخلصها مما شابها فعابها.. هان لديه أن يتصبب عرقاً.. فلا يجد وقتاً عنده ليجففه.. لأنه الطريق وما عزم رسمه! فجادل الدعوى حاداً وحازماً.. فلا عائق له من أن يسير فيه حتى نهايته! ليبدو الفارس الذى انطلق نحو غايته!.. وأن القضية قضيته! فكان سرده، وما إن انتهى منه، حتى كانت القضية قد انتهت! ساعتان ونصف الساعة، صمت بعدها المحامى رجائى عطية، فصمتت لصمته القاعة، ليبدو كمن يستجمع قواه، استئنافاً للمواجهة، ثم ليرفع يديه ومعهما صوته عالياً مجلجلاً مؤكداً: «أنا اسمى محمد رجائى عطية» ثم يعود إلى صمته! معطياً الفرصة لمن فى القاعة أن يتأمل أبعاد ما أعلن! فلا يضيع فى زحام مرافعته كنهه. لحظتئذ أدركت بحس المحامى أن المترافع الجسور ميمم شطر الجانب الحرام فى القضية.. وإنه مقدم على اختراق حاجزها المحظور.. فهو لم يكفه أن صارع الدعوى فى وجهها القانونى فصرعه.. إنما هو مبق على سلاحه فى يده.. وأن وجه الدعوى الاجتماعى الغائر؟ وهو هدفه ووجهته..
وأشهد أن إنساناً لحظة إعلانه عن اسمه على نحو ما أعلن كاملاً وبحكم دراستى للقضية وما تفوح به أوراقها لم يكن أقرب منه إلىَّ.. إنه الإنسان باراً جاء بالحق ليشهد. وإذا كان العهد بنا فى الإنسان المسلم أن يضيف إلى اسمه ما يفصح عن حقيقة انتمائه الدينى خشية ألا يذكره كاملاً فيظلم، فإن شجاعة محامينا الكبير أملت عليه أن يقرن اسمه الذائع المعروف به بما يفصح عن انتمائه، وهو يقرع باباً يُرَاد أن يظل مغلقاً ليفتحه.. ومنطلقاً بعد إعلانه وصمته يعود مزمجراً وفازعاً: «إنه بد ولا مفر رداً للقضية إلى أسبابها من الاعتراف بأن الاتهام فى القضية وُجّهَ بِحُسنِ نيّةٍ أو بِسُوئها بدءاً من التحريات المقدمة فيها؟ إلى أنه طالما أن المجنى عليهما مسيحيان، فإن من يقدم متهماً بالاعتداء عليهما يحسن أن يكون مسيحياً.. إنها المصارحة واجبة، وبغير ما حساسية! وإن ثمة أسباباً كامنة وراء الأحداث يجب أن تُطرح للبحث والمناقشة، إذا أردنا حقاً حماية وحدتنا الوطنية..
ومستخلصاً من واقع أوراق القضية الدليل تلو الدليل على صحة ما تَوَّجَه به وما أعلنه، تأكيداً لدفاعه، وقد رأى فيه استكماله، سعياً به ليحقق له كماله.
وما إن انتهى من مرافعته حتى انتقلت إليه، محيّياً معانقاً، لأتلقى منه نظرات حانية متعاطفة من عينين مجهدتين راضيتين.. أجهدهما صدق العزم ودقة الأداء، يعلنانى أنها الأمانة حُمِّلَها فَحَمَلها.. ورجاؤه أن يكون قد أداها. وأشهد أنه قد أداها فوفّاها، تماماً على الذى أحسن، وأنه إذا قُدِّرَ للوحدة الوطنية أن يُؤَرّخ لها عن الحقبة منذ ولى رئيس الجمهورية السابق أمر البلاد، فإن موقف الأستاذ رجائى عطية وما أعلنه «فى ساحة القضاء» حرىٌّ أن يسجل فى صفحاتها الأولى].
هكذا كنا، قلوباً متآلفة، ومشاعر متعانقة، وإحساساً مشتركاً بالمسئولية، لنحفظ لمصر وحدة الجماعة الوطنية، ونبعث برسالة مشتركة أنه لا طائفية فى مصر.. ولن تكون.