شعرت بغيرة شديدة وأنا أتابع مناقشات مجلس العموم البريطانى أثناء مناقشاته مذكرة الحكومة البريطانية حول الموقف من سوريا، لا لأنه منع تورُّط بريطانيا فى ضرب الشقيقة سوريا فحسب، ولكن أيضاً للالتزام بمصالح البلاد العليا وعدم الانصياع للرغبة الأمريكية المحمومة لتوجيه ضربة محدودة إلى الدولة فى سوريا.
وقد لا يمنع قرار مجلس النواب البريطانى الضربة الأمريكية المحتملة لسوريا، ولكنه -وهذا سبب غيرتى- قدّم لنا ولبرلمانات العالم درساً عن الكيفية التى يتعيّن أن يكون عليها نواب الشعب، فهم ليسوا تابعين للحكومة، وليس من وظائفهم التصفيق والتهليل للقرارات الحكومية ودعمها لقراراتها، بل هم نبض الشعب ومصدر السلطات، وهم أصحاب القرار الأول والأخير فيما يخص مصالح شعوبهم وأمتهم.
أيضاً فإن امتثال رئيس الوزراء البريطانى «ديفيد كاميرون» والحكومة والانصياع لإرادة نواب الشعب أمر يستحق التقدير والاحترام.
وأذكر أنه فى مجلس الشعب المصرى أوائل 2006 اتخذ المجلس قراراً بعدم عبور المدمرة الفرنسية «كليمنصو» قناة السويس، لأن بها مواد مشعة، وكانت الهند قد رفضت أن ترسو بموانيها لما تمثله من خطورة الإشعاع النووى الذى قد يتسرّب إلى الأراضى الهندية، وقلنا وقتها إن حرص الهند على سلامة أراضيها لا ينبغى أن يزيد على حرص النواب فى مصر على سلامة وأمن المواطن المصرى، وصوّت البرلمان على قرار منع المدمرة الفرنسية من عبور القناة. وطالب النواب بأن تعود المدمرة من حيث أتت، فماذا حدث؟ رُفعت الجلسات وتحدّد موعد انعقاد الجلسة القادمة بعد أسبوعين، وفوجئت وقتها بأن الحكومة قد سمحت للمدمرة بالعبور فى قناة السويس فى طريقها إلى فرنسا وضربت بقرار البرلمان عرض الحائط، وحين عادت الجلسات لم يناقَش هذا الأمر ومر مرور الكرام بأغلبية الحزب الوطنى المجمّعة من المستقلين وقتها، فأين نحن وأين نوابنا من مجلس العموم البريطانى ومن النواب الإنجليز؟ فنحن فى مصر لم نصل بعد إلى مستوى انتخاب برلمان قوى ومستقل تخشاه الحكومة وتنفّذ قراراته، ولم يتخط دور مجلس الشعب استيفاء الشكل الديمقراطى دون المضمون والتصفيق والتهليل وحمل المباخر لأعضاء الحكومة وللسلطة التنفيذية الذين يملكون توظيف أهالى الدائرة ومنح الخدمات لدعم النواب الذين ينحازون للسلطة لا للشعب، لأن السلطة هى التى ستمكّنهم من مقاعدهم البرلمانية.
وعلى ذلك فإن من أولويات الحكومة فى الدول المتخلفة ديمقراطياً إنتاج برلمانات ضعيفة يغيب عن نوابها البعد القومى والوطنى ويغلب على أدائهم تغليب المصالح الشخصية والضيقة، التى لا تتخطى خدمة أهل الدائرة وتلبية مطالبهم وسد احتياجاتهم الصغيرة.
وبالترتيب على ذلك وجدنا فى مجالسنا النيابية غياباً كاملاً لدور النواب الحقيقى فى توجيه وإقرار السياسات الأمنية والاقتصادية والرقابة على الحكومة فى أدائها وممارساتها للسلطة التنفيذية، فضلاً عن غياب للدور التشريعى للنواب الذى انحسر فى إقرار مشروعات القوانين التى تقدِّمها له الحكومة.
فإن لم تُراع لجنة الخمسين كل ما سبق وأن تكون حريصة على إنتاج مجلس للشعب قوى وله فاعلية فى اتخاذ القرارات، سواء الأمنية أو الاقتصادية والاجتماعية، وكذلك الرقابة الفاعلة والمؤثرة على السلطة التنفيذية بما يضمن تحقيق إنجازات على الأرض لصالح المواطن البسيط وكذلك توفير الخدمات بالعمل المُخطط والجاد لخدمة أهالى جميع الدوائر، فإننا جميعاً سنشعر بالخزى ونحن نراقب عملية اتخاذ القرار وصياغة المواقف فى دول تحترم شعوبها وتنحنى لإرادتها الحكومات.
وقد آن الأوان لترجمة الثورة إلى آليات فى الحكم وصنع القرار والمشاركة فيه وأن نضع حداً نهائياً لعشرات السنين من التهميش لدور نواب الشعب وانفراد الحكومات باتخاذ القرار، ودون ذلك فلا معنى لثورتين قامتا فى مصر فى أقل من ثلاث سنوات إلا تغيير أشخاص الحكّام مع استمرار ذات النهج والثقافة السياسية فى صنع القرار وتقرير المصير.
وأتصور أن العبء الأكبر فى التأسيس لحياة ديمقراطية سليمة ولنظام اقتصادى يكفل العدالة الاجتماعية يقع الآن على عاتق لجنة الخمسين الذين أدعوهم لمشاهدة مناقشات مجلس العموم البريطانى الأخيرة ليشعروا بما شعُرت به من غيرة على مستقبل بلادى، وأن يكون شاغلهم الأكبر هو العمل على إنتاج برلمان قوى، فمثل هذا البرلمان سيحل مشكلاتنا الأمنية والاقتصادية والاجتماعية بما سيكون له من سلطات حقيقية وفاعلة فى الرقابة على الحكومة والسلطة التنفيذية وسلطة إصدار التشريعات التى تحقق صالح الوطن والمواطن لذلك يجب أن تكون مناقشات ومداولات اللجنة علنية ومذاعة على الهواء مباشرة حتى يتمكن الشعب من إعمال الرقابة الشعبية على أعمال اللجنة ويجب أيضاً عقد جلسات استماع لكل فئات الشعب، وأن تدوّن كل المناقشات والاقتراحات فى مضابط تُنشر فى الصحف، وذلك سيوضّح مواقف أعضاء اللجنة من القضايا المطروحة أولاً بأول، وكذلك على اللجنة أن تطرح للنقاش العام ما توصلت إليه من نتائج وأن يكون قرارها فى الانحياز لرأى دون آخر مسبَّباً حتى يقتنع الشعب بما تقره اللجنة من مواد دستورية، ومن ثم يكون مهيئاً للاستفتاء على مشروع الدستور الذى سيؤسس للسلطات ويرسم معالم الطريق لمستقبل هذا الوطن وشعبه.
المهمة ثقيلة وتاريخية لأعضاء لجنة الخمسين وتقتضى التجرُّد من الأهواء والانتماءات إلا لمصر ولصالح العام لشعبها.