للريف سحر لا يعرفه إلا من سكن به وسكن فيه، منحوت الملامح كبِكر ويرقص كلعوب، يتهادى في أناةٍ ككهلٍ دعي لاتمام صلحٍ بين غريمين.
الريف أنيس الوحيد، وسلوى المتعب والمهموم، هادئ لمن أراد الهدوء وصاخب لمن أراد الصخب، لا يدعي الفضل لكن يعرف الناس فضله، ومازال هو وصفة الأطباء لأصحاب القلوب المتعبة والرئات الكليلة.
تشكو لخضرته فيسمع كما تشكو للبحر؛ إلا أن البحر يجيبك بهياج أمواجه حزنًا على حالك، أما الريف فيجيبك كملمس جدةٍ عجوز تتخلل أصابع يدها شعرك الخشن مطببةً جراحك، تحملك رائحة حنائها على فراشٍ من حرير، تلمس نياط فؤادك فتمدك بالحياة، أينما سارت الجداول كانت الحياة. وللجداول بأيام الريفيين حكايا تعجز الكتب عن الإلمام بها، فهي مجلس العاشق وملهى الصغير.
وعلى بعد أمتار من الجدول تمددت على فراشها النحاسي تصرخ كل خلية بها، بين أثمال الفراش البالية يرتج جسدها اللين الواهن، قدمان مقوستان تتحركان حركات فجائية غير منتظمة، تستند على مرفقيها وتكتم أنفاسها، وتحولها إلى أضلعها المنقبضة التي تضغط بدورها على عضلات بطنها وصولًا لما بين فخذيها لعل هذا الثقل يخرج.
تصرخ بصوت مشروخ: "الرحمة يا كريم.. يارب خلصني".
يدخل عليها زوجها في جلبابه البني، طويل ذا رقبة مدببة كرمح يعلوها رأس صغير تغطي صلعته الواسعة طاقية بيضاء، يكتسي وجهه قسوة مصطنعة تفضح عيناه ما تحتها من رقة.
تناديه: "أموت يا علوان.. النجدة يا ابن عمي"،
- "إصبري فالمرأة بالطريق".
تغوص في فراشها كأنه بحر، يصفر وجهها ويبدأ الخطان الخضراوان المرسومان على ذقنها بالبروز كطائر يتأهب للطيران. تجاهد للبقاء ويجاهد هو للصمود.
تدخل المرأة مسرعة بثوبها الأسود الذي احتلت حوافة التراب، جافة كجريدة، تسير في ثوبها قبل أن تسير على الأرض، عيناها ميتتان كنباش قبور.
- "آهٍ من دلع النسوان.. ألم تنجبي قبل ذلك أربع بطون غير السقط!".
تناديها: "الرحمة يا خالة.. خلصيني".
يخرج الرجل تاركًا الأمر بيد الله لا القابلة، يدور حول الدار كأنها الكعبة، زَهد الحياة بجوف القرية فلفظها ولفظته، بنى داره على حافتها بأرض ورثها عن أبيه، أمامه جدولين من الماء، وابناؤه الأربع يلعبون ويقيمون دارًا صغيرةً من طين، ليسكنوا بها عيدان القش كأنها سكان من لحم ودم، هي لعبتهم الأثيرة كما يلعب أبناء الأغنياء على رمال البحر، لكن الفارق بين هذا وذاك أن ما يبنى على الرمال قصور وقلاع وما يبنى على حافة الجدول دارٌ صغيرةٌ من طين.
يراقبهم في صمت وهو مستند على شجرة الكافور الكبيرة التي زرعها أبوه يوم عرسه منذ ما يقرب من عشرين سنة، الألم يعصر فؤاده، والخوف يظلل على رأسه كسحابة خريفية صماء؛ تحجب عن السماء ابتهال قلبه، يأتيه ابنه الأصغر في جلبابه المتسخ من آثار التراب والطين.
- "أسيكون لنا أخ أم أخت يا أبي؟".
يضع يده المتشققة من آثار فأسه على رأسه ويجيبه الصمت. يهاب أن يفقدها فرغم كل هذه السنين مازال يراها الصبية ذات الستة عشر عامًا. حكايات من متن أثناء الولادة تزوره كمس الجن، وتهزه رعشة الخوف.
- "مبارك يا علوان".. وما إن يسمع صوت القابلة حتى يجد نفسه أمام فراش "بركة"، ينظر لها برضًا وتنظر له بعتب.
- "كيف حالك يا بركة".
- "نحمد الله".
يبتسمان معًا. صوت طاعن في السن يأتيهما من ركن الحجرة: "أنجبت أنثى".
تتكور "بركة" في فراشها، فيرد عليها: "أنجبت أربعة ذكور قبلها، ولعل فيها الخير".
فترمقه أمه: "لعل!"، يحاول تلطيف الأجواء فيقول: "سمها يا أمي"
فتجيبه: "لا اسمي البنات". يكاد الجنون يطير بعقله فكيف لا تسمي البنات وقد أنجبت منهن خمس!
يحمل الصغيرة على يسراه ووجهها لا يفصله عن قلبه سوى جلبابه وغشاوة ورثها الرجال، يقف بها أمام الكافورة الكبيرة، يتحلق حوله أبناؤه فرحين مهللين بالساكن الجديد، صوت يخرج: "ما اسمها يا أبي؟".
يبتسم في هدوء ويقول: "كافورة".