فى كتابة الرسائل العلمية، تظل مشكلة نقل المعرفة من سياقها الزمنى، ودمجها فى تفاعلات تاريخية وثقافية واجتماعية مغايرة من أهم المعضلات، لا سيما ما يتعلق بالآليات التى تفرضها طريقة التفاعل مع الوقائع والأحداث، فالمؤثرات التى تفرزها كل مرحلة تكون لها ظروفها الخاصة، علاوة على تاريخ الفعل أو السلوك الإنسانى، وما ينتجه من وقائع وأحداث وأفكار.
وما زلت متمسكاً برأيى، الذى خالفت به بعض أساتذتى فى قسم التاريخ، من أن استدعاء المنهج ومسائله ومفرداته وتراكيبه وأفكاره ومفاهيمه وبنيته وسياقه وسبر دلالته واستيضاح مراميه من صميم منهج البحث التاريخى، وأن التاريخ يشتمل على تاريخ أشخاص، وأحداث، وأفكار، وليس أحداثاً فقط، وضربت نماذج لوجهة نظرى بعدة رسائل تاريخية تناولت أفكاراً ومناهج، مثل أحمد الزغبى فى رسالته: «تاج الدين السبكى ومنهجه التاريخى فى كتاب طبقات الشافعية الكبرى»، وإبراهيم أبوسعيد فى رسالته: «دور العلماء فى المجتمع العراقى»، وصلاح عاشور فى رسالته: «الحياة العلمية فى العراق والمشرق الإسلامى إبان العصر السلجوقى»، وفتحى شلبى فى رسالته: «تطور الحياة الفكرية والثقافية فى عصر الخديو إسماعيل»، وجالو عمر توبالو فى رسالته: «موريتانيا ودورها فى نشر الدعوة الإسلامية حول نهر السنغال»، وهذه الوجهة تتيح لنا مناقشة أفكار جماعة الإخوان فى قسم التاريخ دون معوقات.
أيضاً ينبغى على الباحث الإلمام باللغة الإنجليزية، حتى إن بدت عسيرة، وستقابل الباحث أيضاً معضلة كبيرة إذا لم يلم بالفيلولوجيا (philology)، أى «فقه اللغة»، فإنه من العلوم المساعدة الضرورية، لأنه كلما بَعُد العصر الذى هو موضوع الدراسة ازدادت أهمية علم فقه اللغة، إذ لا بد لفهم النصوص من معرفة لغة العصر الذى تكتب عنه، واللغة كائن يتغير، ولها تطور دلالى يفضى إلى وجود تراخٍ بين اللفظ ودلالته.
ويدعو الدكتور حسن عثمان فى كتابه «منهج البحث التاريخى» إلى ضرورة أن يكون الباحث ذا عقل منظم، يميز بين الحوادث، وينسق أنواع الحقائق، ويكون غير متحيز، ولا يكذب ولا ينتحل، ولا يستعجل الانتهاء من بحثه حباً للشهرة والظهور، وشوقاً لأن يسبق اسمه حرف الدال.
والباحث عليه التفرقة بين الكتابة بلغة الإعلام ولغة الأكاديميين، ولا بد أن تتوافر لديه ملكة النقد والتمييز، فالعلم، كما يقولون جمع وفَرقٌ، جمع ما يُظن أنه مفترق، وتفريق ما يُظن أن مجتمع.
أيضاً تقابل الباحث مشكلة التلقى، تلقى نص سابق وفهم مقاصده ورسوم تعبيره، فكثير من الباحثين يقرأون نصاً فى السابق، وهم يظنون أن بعض ألفاظه تعنى اليوم ما تعنيه أمس، ومن هنا كانت معضلة التعامل مع التراث، وهى المشكلة التى جعلت العلاقة بين المثقفين والأزهريين متباعدة.
ثم يأتى عقب هذا المتقدم مشكلة المصادر والمراجع، فقد دب التكاسل والخمول بين بعض الباحثين، فتجد الباحث ينقل من مصدر لم يره أصلاً، وذلك غش، وفى الحديث الشريف: «من غشنا فليس منا»، بل على الباحث أن يجتهد فى البحث عن المصادر الأُوَل وينقل منها، فإن عجز ينتقل إلى المصادر الثوانى، فإن عجز ينتقل إلى الثوالث.
والباحث المتمكن هو الذى يعرف طرق التثبت من صدق من ينقل عنه وعدالته، وعدم انخداعه به، ويعرف عوامل الخداع، ويتثبت من النقل، ولا يتداخل عنده ذلك الخلط المشين بين مرحلة الحدث أو المعلومة، ومرحلة تحليل المعلومة، ومرحلة الوصول للنتيجة.