مع بداية الولاية الثانية للرئيس عبدالفتاح السيسى من المناسب إعادة النظر فى أولويات السياسة الاقتصادية بما يحقق آمال الجماهير ووعود سيادة الرئيس بالعمل على تحسين أحوال المواطن والاستجابة لاحتياجاته.
وبينما نجحت السياسة الاقتصادية فى تثبيت سعر الصرف وبداية إصلاح عجز الموازنة فإن المرحلة المقبلة تتطلب سياسات جديدة وبالذات فى مجال مكافحة البطالة والسيطرة على غلاء الأسعار. وبينما يتناول البعض مشكلة البطالة بشكل تقليدى ويرجعها إلى زيادة السكان وانخفاض إنتاجية العمال وتراجع معدلات الاستثمار القومى، ويحيل الحلول إلى الأجل الطويل، فإن الواقع السياسى يفرض علينا بذل المزيد من الجهد فى إيجاد حلول مبتكرة لتوظيف قدرات هذا الشعب الطموح والمبدع الذى يرغب بلا شك فى تحسين وضعه، حتى لو عن طريق المجازفة فى مراكب الموت أو بالسفر إلى مناطق النزاع فى ليبيا وغيرها.
هذا ولقد سجلت بيانات الجهاز المركزى للتعبئة العامة والإحصاء تراجعاً طفيفاً فى معدلات البطالة إلى 11٫3% من القوة العاملة فى المتوسط. ويرجع هذا أساساً إلى زيادة فرص التشغيل وبالذات للعمالة غير الفنية والحاصلة على تعليم أقل من المتوسط فى مشروعات التشييد والبنية الأساسية. أما البطالة بين الشباب والحاصلين على الشهادات العالية فلقد وصلت إلى معدلات قياسية تقترب من 42%. وقد تكون معدلات البطالة الفعلية أعلى من ذلك بكثير، حيث إن الإحصاءات الرسمية لا تسجل العاطلين الذين خرجوا من سوق العمل إما يأساً أو لعدم الرغبة بسبب عدم ملاءمة الفرص الموجودة.
ماذا نقترح إذاً؟ لعل أول خطوة فى هذا المجال أن نخلق جهازاً جديداً لمكافحة البطالة، وقد يكون هذا الجهاز تابعاً لوزارة التخطيط التى تراجع دورها فى الحياة الاقتصادية كثيراً منذ السنوات الأخيرة لحكم الرئيس حسنى مبارك، حيث تم تحويل دورها التخطيطى التنفيذى إلى دور استشارى يعدم الأدوات المالية اللازمة للتنفيذ. ويواكب هذا التخصص فى مكافحة البطالة تعاون وتنسيق مع باقى أجهزة وجهات القرار الاقتصادى فى الداخل حيث إن المسئولية اليوم موزعة بين عدد من الجهات. ولعل أقوى هذه الجهات هى وزارة المالية. ولكن وزير المالية مشغول بقضايا الجباية وتحقيق توازن الموازنة. والجهة الثانية المهمة فى المجال الاقتصادى هى البنك المركزى، وقد لا يكون التشغيل أولى أولوياته، فهو يسعى أولاً لتحقيق التوازن النقدى، ومحاربة التضخم والحفاظ على قيمة العملة. وكثير من الأحيان يتحرك محافظ البنك المركزى مستقلاً عن باقى المجموعة الاقتصادية. أما الجهة الثالثة المسئولة عن الاقتصاد فهى وزارة التموين. والمهمة الأولى لها هى إطعام هذا الشعب فى ظل تراجع مستمر للإنتاج الزراعى وعدم كفاية المنتج. الجهة الرابعة هى وزارة الصناعة والتجارة الخارجية التى أصبح دورها إرشادياً بعد أن فقدت ملف القطاع العام ومن الواضح أن تعارض أهداف كل جهة من الجهات المذكورة يؤدى إلى تضارب السياسات وبالذات فى مجال خلق فرص العمل.
ولعل أولويات عمل هذا الجهاز الجديد لمكافحة البطالة تتضمن ثلاثة محاور. الأول هو إعادة فاعلية جهاز الإنتاج الزراعى، فالزراعة ما زالت هى أهم قطاعات التشغيل فى مصر ومسئولة عن 17% من فرص العمل. ويعانى هذا القطاع من انخفاض الإنتاجية وكذلك انخفاض الربحية، ولقد قاسى من ضربات موجعة فى الفترة الأخيرة بسبب ارتفاع أسعار المدخلات الزراعية والوقود، مع تراجع بعض أسواق التصدير. ويجب أن تعيد الدولة الاهتمام باستعادة أسواق التصدير، ورفع القيمة المضافة للمنتج الزراعى عن طريق التصنيع والتعبئة ويساعد فى هذا المجال تنشيط الإرشاد الزراعى وتشجيع التعاونيات والتسويق التعاونى. أما القطاع الثانى الذى يستحق الاهتمام فهو قطاع الخدمات المسئول عن أزيد من 50% من فرص العمل، بما فى ذلك القطاع غير الرسمى. وهنا يجب تقنين أوضاع المؤسسات غير الرسمية وتشجيع ترخيصها وتقديم القروض الملائمة لعملها. ولقد بدأ البنك المركزى المصرى مبادرة جيدة بتوفير القروض للمشروعات الصغيرة ومتناهية الصغر، وبأسعار فائدة منخفضة. ويحتاج هذا القطاع إلى المزيد من الرعاية والدعم. أما الجبهة الثالثة التى تحتاج المزيد من الاهتمام فهى قطاع العاملين فى الخارج الذين وصل عددهم إلى ما يقرب من 10% من مجموع السكان. هنا يجب أن تعمل الدولة على تسهيل حصول المواطنين على فرص عمل بالخارج، والعمل على الدفاع عن حقوقهم وتقنين أوضاعهم فى دول المهجر. وهنا يمكن أن نشير إلى فرصة تاريخية كبيرة يجب اقتناصها، ألا وهى إمكان مساهمة العمالة والشركات المصرية فى إعادة إعمار دول الجوار العربى التى عانت من الحروب الأهلية والنزاعات مثل ليبيا وسوريا والعراق واليمن. ويحتاج هذا العمل إلى تخطيط واعٍ وإلى خلق أجهزة مصرية تعاون فى استكشاف فرص مشروعات التعمير وتمويلها. ومن المعروف أن عقود المقاولات الخاصة بالتعمير تُشغل ليس فقط عمالة ماهرة فى التخطيط المعمارى والهندسى، ولكن تفتح مئات الآلاف من فرص العمل الصناعى فى مصانع مواد البناء والسيراميك والأجهزة المنزلية، وكلها قطاعات تتمتع فيها مصر بميزة نسبية.
وهكذا ندعو إلى عودة القضايا الاقتصادية وأولها قضية مكافحة البطالة إلى مقدمة الحوار المجتمعى، مع العمل على دعم مؤسسات القرار الاقتصادى، وتوحيد جهودها.