الفاخورة فن فرعونى يقاوم الانقراض
صناعة الفواخير تفتقد الأيدى العاملة
بجلبابه ويديه الملطختين بالطين، يجلس على آلة خشبية متهالكة يدير عجلتها من الأسفل بقدمه، فتحدث صوت حفيف، يتزامن مع حركة يديه التى تشكل الكتلة الطينية، التى تدور فى لفات متزامنة مع حركة قدمه، لتخرج بعد دقائق تحفة فنية، بعدما كانت مجرد كتلة من طين.
حمدى محمود الريس أو «الريس» كما يحب أن ينادوه، ورث تلك المهنة أباً عن جد، يعمل داخل تلك الخيمة المهلهلة التى تستر أجزاء من موقع عمله، ولا تستطيع ستر الآخر، تقع على طريق عزبة «سلام»، التابعة لمدينة دمنهور، محافظة البحيرة، والتى تحوى 12 فاخورة «ورشة صناعة الفخار»، وفى الداخل تظهر الأوانى المشكلة من الطين، متراصة جنباً إلى جنب، وما زالت تحتفظ بلونها الأسود الداكن، بعد تشكيلها، وفرن صغير من الطين أيضاً، مملوء من الحطب، وأحواض لترسيب الطين. وتعتبر «فاخورة الريس» واحدة من الورش الصغيرة التى يعمل بها أهل عزبة سلام، ويحاولون من خلالها الحفاظ على هذه الحرفة وهذا الفن الذى يتعرض لأزمات تهدد باندثاره رغم أنه فن برع فيه المصريون منذ عهد الفراعنة.
«الريس»: 35 ورشة لم يتبق سوى نصفها.. والشباب يفضل «التوك توك» على تعلم حرفتنا
«الريس» يتحدث لـ«الوطن» وهو لا يتوقف عن عمله، الذى يبدأ بغمر التربة الطينية بالمياه فى تلك الأحواض الموجودة داخل الورشة، ويقول إن هناك تربة طينية تصلح للعمل بها وأخرى لا تصلح، ويميزها من لونها؛ فالتربة الطينية السوداء القاحلة لا تصلح لتشكيل الفخار، ولكن التربة الرمادية التى تحتوى على نسبة من الرمال وسط التراب الطينى هى الصالحة لهذا العمل.
ويجلب «الريس» التربة الطينية من الأراضى الزراعية التى تنتشر حوله، ويتم ترسيبها فى تلك الأحواض المملوءة بالمياه، ويقوم مساعده بتقليب تلك التربة داخل الأحواض بيديه حتى تتماسك، وبعد ذلك يقوم بتصفيتها بمصفاة حتى ينقيها من الحصى والحشائش، ثم يوزع تلك التربة على الأحواض، وتستقر تلك التربة فى الأحواض فى الشتاء لمدة 30 يوماً، وفى الصيف 15 يوماً. بعد ذلك يقوم مساعد «الريس» بعجن الطين فى الأحواض بأقدامه، ثم ينقلها على أجزاء لتوضع أمامه على هذه الآلة التى تسمى «الدولاب»، وهى آلة خشبية على طاولة، تتشكل من جزءين؛ جزء دائرى فى الأسفل، وجزء دائرى آخر فى الأعلى، يوضع الطين على الجزء الذى فى الأعلى، ويحركه «الريس» بقدمه من خلال الجزء الذى فى الأسفل، بحيث تدور أمامه قطعة الطين، وهو يشكلها بأصابعه، كيفما يشاء: «الطين فى إيدى أقدر أشكل بيه أى حاجة ممكن تتخيلها»، ويعدها على أصابعه: «أوانى، معالق، مساقى الزراعات، وجواديس أبراج الحمام، وقلل، وبرابخ الصرف المغطى للأراضى الزراعية».
بعد انتهاء «الريس» من تشكيله، حسب الطلبية المتفق عليها مع الزبون أو التاجر، يرص تلك الأشكال جنباً إلى جنب على مساند خشبية تحت حرارة الشمس، حتى تتماسك، وبعد أيام يقوم برص تلك الأشكال داخل الفرن، ويشعل فيها النيران، حتى تتحول إلى فخار، تدخل الفرن بلونها الأصلى الأسود الداكن، تخرج بلون أحمر زاهٍ.
«ياسر»: طورت مهنة أجدادى.. وأشكل قطع الخزف وأبيعها لتجار البازارات السياحية
يشكو «الريس» من ضعف الإمكانيات وعدم قدرته على تطوير ورشته البدائية، فيحلم الرجل بتحويل ذلك الفرن من فرن من الطين والحطب إلى فرن بالكهرباء والغاز الطبيعى، ليرحم نفسه من مطاردة مديرية البيئة المستمرة التى تطالبه بعدم إشعال النيران فى أفران الفواخير خاصة خلال أشهر زراعة الأرز، ولكن ضيق ذات اليد وقلة الزبائن تمنعه، بخلاف قلة العمالة المدربة فى تلك المهنة، حيث يقلع الكثير من العاملين الشباب عنها حسب روايته: «وإحنا صغيرين كان الولد بيجى لنا فى الصيف عشان يتعلم الحرفة.. دلوقتى بيروح يشتغل على توك توك أسهل ومكسب أكبر».
يؤكد «الريس» صعوبة مهنته: «مش أى حد يقدر يشتغل المهنة دى»، حتى إنه رفض أن يعمل بها أولاده: «علمتهم وقلت لهم اشتغلوا بعيد عنى»، ويستطرد: «شقا ياما.. وفى الشتا ممكن المطر ينزل يضيع شقاهم ويدمر كل إللى عملوه»، ولكن رغم ذلك يتمنى أن يقبل على هذه المهنة شباب قريته الفقيرة حتى لا تندثر المهنة معه ومع الآخرين من سنه بعد وفاته: «زمان كنت تلاقى الفاخورة الواحدة شغال فيها عيلة كاملة لكن دلوقتى تلاقى فى كل فاخورة اتنين بالعافية».
يقول «الريس» إنه قديماً حين كان طفلاً لم يكن فى قريته «سلام» سوى ثلاث فواخير، يعمل بها أكثر من ثلث سكان القرية، ولكن الآن ورغم الورش والفواخير الكثيرة، التى وصل عددها لأكثر من 12 فاخورة، فإنها لا تستوعب نسبة 5% من سكان القرية، مشيراً إلى أنه قبل سنوات كانت هناك أكثر من 35 فاخورة ولكنها أغلقت ولم يتبق إلا أقل من نصفها، بسبب قلة الإقبال.
بضعة كيلومترات تفصل بين فاخورة «الريس» وفاخورة أخرى أكثر تطوراً، وأكبر من حيث المساحة، فاخورة «ماهر عتلة» تتراص فيها أشكال أكثر عدداً وإبداعاً، لم تكن الأوانى وحدها التى تضج بها الفاخورة، ولكن كانت هناك تشكيلات أخرى على شكل حيوانات، وشمعدان، وفازات، كان هناك رجلان يعملان فيها، أحدهما عجوز الحاج «ماهر عتلة»، يرتدى جلباباً رثاً، ويعمل تحت ضوء الشمس، على دولاب يشبه دولاب «الريس»، وآخر شاب فى مقتبل العمر، يرتدى ملابس إفرنجية، ويجلس على دولاب آخر ولكن شكله مختلف، هو ابنه «ياسر» وتحت يديه طين من نوع آخر أحمر اللون، ويعمل تحت ضوء لمبة صفراء يقربها منه، ويعمل فى تشكيل الخزف.
الأب «ماهر» ما زال محتفظاً بالطرق التقليدية فى تشكيل الأوانى، فيما سعى ابنه «ياسر» نحو التطوير والتحديث فى مهنة أبيه الذى أحبها، فأخذ على عاتقه شراء فرن بالغاز الطبيعى، وجلب طيناً من أسوان، لكى يصنع الخزف، ويعمل على تشكيل قطع فنية أكثر للزينة فى المنازل وللبيع فى محال الخزف والهدايا وخان الخليلى. بكل زهو يقول «ياسر» إنه «الوحيد الذى استطاع الخروج من شرنقة الفاخورة البدائية ليس فى قرية سلام وحدها ولكن فى محافظة البحيرة كلها، يشير إلى شاب يقف إلى جواره ويقول إنه «تاجر من القاهرة، يمتلك محلاً لبيع الهدايا للسياح، وكان يأخذ بضائعه من أسوان ولكن حولها إلى هنا، بعدما اكتشف أن ورشتنا تخرج نفس الإبداع ويمكن بشكل أكثر حرفية وإتقان».
ذلك التطوير الذى ظل يحلم به «ياسر» منذ طفولته: «بحب المهنة دى من صغرى، شربتها من والدى وكان لازم أطورها وأستغنى عن عقدة الخواجة»، مشيراً إلى أن هناك الكثير من القطع التى كان يشكلها والده فى السابق بدأ الاستغناء عنها: «وقفت شغل محدش بقى بيشتريه زى الزير أو القلة.. لازم كنا ندخل الخزف عشان المهنة ماتوقفش.. كنا زمان فيه 50 ورشة فى سلام، ولكن دلوقتى مابقاش غير 5 إللى شغالين عشان ماطوروش من نفسهم».
يبيع «ياسر» لمحال فى الإسكندرية ودمنهور والقاهرة، والكثير من المعارض، ولكن رغم ذلك لم يحاول أى من جيرانه تطوير ورشهم كما فعل، ويؤمن «ياسر» بأن الموهبة والإيمان بالمهنة وحده الذى يدفع أى شخص لتطويرها حتى لا تندثر وتدمر وتمحى من الخريطة.