يوم الثلاثاء الماضى، فاجأ الرئيس الأمريكى دونالد ترامب العالم بتصريح جديد من تصريحاته النارية؛ حين قال، خلال مؤتمر صحفى جمعه بنظيره الفرنسى إيمانويل ماكرون: «إن دولاً فى الشرق الأوسط لن تصمد طويلاً فى حال رفعت الولايات المتحدة الحماية عنها، وعلى تلك الدول أن تدفع ثمن ذلك».
سيمكن تفسير تصريح ترامب على أنه إحدى انفلاتاته الصارخة التى عُرف بها منذ أطل على المشهد العالمى بترشحه لرئاسة أقوى دولة فى العالم، كما سيمكن اعتباره «تصريحاً فجاً»، ينطوى على اقتراب غير ملائم، ويستخدم لغة غير دبلوماسية.
سيسعى نقاد ومحللون إلى تأويل تصريح ترامب المثير للجدل، وسيجتهد آخرون فى توقع أسماء الدول التى قصدها من تصريحه، فيما سيصف ساسة فى المنطقة هذا الحديث بأنه «وقح»، فى جلساتهم الخاصة، أو سيدعون أنه يقصد به أعداءهم على سبيل الكيد السياسى، لكن الأكيد أن هذا الكلام مس عصباً حساساً، وهو على الأرجح عصب مكشوف.
وببساطة شديدة، فإن دولاً فى المنطقة كبيرة أو صغيرة، وعريقة أو حديثة التكوين، لا تمتلك من وسائل القوة الشاملة ما يُمكّنها من صد التهديدات التى قد تتعرض لها، ومجابهة التحديات الأمنية والاستراتيجية التى تستهدفها، بسبب الخلل الواضح فى موازين القوى من جانب، ووجود مصادر تهديد تمثلها قوى طامعة وطامحة وشرهة إلى التغول والنفوذ من جانب آخر.
فمن منا لا يعرف أن إيران تتربص بدول الخليج العربية، وأن ميليشياتها تعبث فى أربع دول عربية، وأنها تعلن صراحة استعادتها «الإمبراطورية الفارسية وعاصمتها بغداد»، فيما تضرب إسرائيل باعتبارات الأمن القومى لجيرانها العرب عرض الحائط، ويتوغل جيش تركيا فى أراضى دولتين عربيتين، بموازاة استهدافها لسيادة عدد آخر من دول المنطقة، عبر التدخل فى شئونها الداخلية.
وهنا يثور سؤال مهم: «هل يقتصر هذا الأمر على منطقة الشرق الأوسط فقط؟ وإذا كانت الإجابة لا، فما الذى تفعله دول أخرى فى مناطق أخرى من العالم حين تكون فى الظرف ذاته؟».
إن اختلال موازين القوة نسق متكرر، بل يمكن القول إنه دائم الحدوث فى مناطق العالم المختلفة، وبسبب هذا الاختلال، فإن العديد من الدول وقعت فى الظرف ذاته، لكن الطريقة التى يتم التعاطى بها مع مثل هذا العوار الخطير تبدو متباينة؛ وهى فى كل الأحوال صالحة لكى نستخلص منها العبر.
تعيش الولايات المتحدة إلى جانب جارتين؛ إحداهما فى الشمال هى كندا، وثانيتهما فى الجنوب وهى المكسيك، ورغم أن تباينات القوة بين واشنطن وجارتيها واضح وشاسع، فإننا لم نسمع أنها، رغم كل شراهتها للتدخلات وبسط النفوذ وتغيير الأنظمة بالقوة واحتلال بعض الدول، استطاعت، أو رغبت فى أن تجور على سيادة أى من جارتيها.
وإذا عدنا بالذاكرة إلى الوراء قليلاً، سنكتشف أن واشنطن دخلت صداماً حاداً معلناً مع كوبا فى عهد فيدل كاسترو، وأن هذا الصدام ارتفعت حدته إلى درجة قياسية، هددت فى إحدى ذراها بقيام حرب عالمية تُستخدم فيها الأسلحة النووية، ومع ذلك، فإن واشنطن لم تنجح فى غزو كوبا، أو كسر شوكتها، أو إطاحة حكم كاسترو.
تعيش دول صغيرة الحجم، ومتخمة بالثروات فى القارة الأوروبية؛ مثل الدنمارك، وبلجيكا، وفنلندا، ولاتفيا، وهى تجاور دولاً أكبر منها وأكثر قوة، وأحياناً ما تتوتر العلاقات بينها وبين تلك الدول الأقوى؛ ومع ذلك لم يحدث أن تم تهديد أمن أى منها، أو إسقاط الحكم فيها.
فما الذى تفعله تلك الدول للدفاع عن نفسها فى ظل تباينات القوة الشاسعة فى غير مصلحتها، وبصيغة أخرى، ما الذى يمكن أن تفعله الدول التى قصدها ترامب بتصريحه لكى تقلل من انكشافها، واعتمادها الأمنى على واشنطن، عبر تصليب وسائل ممانعة واحتراز، تحسن موقعها الإقليمى والدولى؟
ثمة ثلاث وسائل ناجعة استطاعت من خلالها دول مثل كوبا، وكندا، وبلجيكا، أن تقاوم هذا التباين الحاد فى موازين القوة بينها وبين جيرانها، وبينها وبين قوى عالمية طامحة للنفوذ والهيمنة، وأن تبقى فى مأمن من الاستهداف، من دون أن تكون مضطرة لدفع مقابل حماية.
الديمقراطية وحقوق الإنسان
من خلال اعتماد نظم ديمقراطية تزيد القوة الشاملة للدولة؛ لأن تلك القوة ببساطة لا تتعلق بالقدرات الصلبة؛ مثل السلاح والاقتصاد والأبعاد الديموجرافية فقط، ولكنها تمتد بكل تأكيد لتشمل الصورة الذهنية، والاحترام والاعتبار الدوليين، وهو أمر يتعلق مباشرة بالقدرة على الوفاء بالمعايير الدولية للحكم الرشيد، والحريات، وحقوق الإنسان، ودرجة المشاركة فى صنع السياسات العامة، مما يتوافر بوضوح لدى دول مثل كندا والدنمارك والنرويج وفنلندا وغيرها.
التحالفات العسكرية
لم يكن أمام أوروبا، ومن ورائها الولايات المتحدة، لكى تحد من طموحات ألمانيا للهيمنة على القارة العجوز، فى مطلع القرن العشرين، أفضل من الانخراط فى تحالف عسكرى، وهو التحالف الذى قاد إلى الحرب العالمية الأولى، وبسببه نجحت تلك الدول فى هزيمة ألمانيا. وقد تكرر الأمر ذاته مرة أخرى عشية الحرب العالمية الثانية، حيث لم يكن بمقدور دولة واحدة بمفردها أن توقف زحف هتلر، بعدما احتل النمسا وبولندا وفرنسا وغيرها من دول القارة.
فالتحالفات تنشأ عادة لمعالجة خلل فى توازن القوة، وهى قادرة تماماً على تغيير وقائع المعارك، وبالتالى فهى قادرة تماماً على تغيير التاريخ.
ويرى بعض الباحثين أن التحالف ليس سوى «التزام مشروط ذى طابع سياسى أو عسكرى، بين دولتين أو مجموعة من الدول، تتعهد خلاله باتخاذ تدابير تعاونية فى مواجهة دولة أو مجموعة من الدول».
يفسر هذا الشرح ما اتفق عليه الباحثون الاستراتيجيون من كون التحالفات العسكرية ليست مبدأ من مبادئ العلاقات الدولية بقدر ما هى وسيلة من وسائل الملاءمة، وهو الأمر الذى احتاجته دولة مثل كوبا، لكى تبقى فى مأمن من اجتياح أمريكى لأراضيها، فى فترة اشتعال الصراع مع واشنطن.
لقد تحالفت كوبا مع الاتحاد السوفيتى السابق، وبفضل هذا التحالف لم يكن بمقدور واشنطن إسقاطها إلا بعد خوض نزال، بدا آنذاك مستحيلاً، مع موسكو.
القوة العسكرية المشتركة
دول مثل بولندا أو التشيك أو لاتفيا، لم يكن بوسعها أن تحصن أمنها القومى من دون الانخراط فى حلف مثل «ناتو»، الذى ينص نظامه الأساسى على أن «الهجوم على أى دولة عضو يعتبر هجوماً على جميع الدول الأعضاء».
ليست هذه بالطبع دعوة إلى الدول الشرق أوسطية، التى يمكن أن يكون ترامب قصدها فى تصريحه المثير للجدل، لكى تنضم إلى «ناتو»، لكنها دعوة إلى أن تسعى هذه الدول إلى تكوين «قوة عسكرية عربية مشتركة»، تعمل على أسس حقيقية وواقعية.
أفضل ما يمكن أن نفعله حيال تصريح ترامب ليس الشجب والانتقاد بكل تأكيد، وإنما محاولة تفريغه من مضمونه، عبر سياسات قد تكون صعبة، لكنها ضرورية.