صانع قباب المساجد والكنائس: الخرسانة قضت على جمال الريف
«عبداللطيف» خلال بنائه إحدى القباب
وسط الكتل الخرسانية العملاقة، والبنايات الشاهقة، تجد بعض المنازل القصيرة ذات القباب البنية، تلك هى آخر ما تبقى من العمارة التراثية أو عمارة الفقراء، كما سمّاها المعمارى الراحل حسن فتحى، التى ما زال يسكنها البعض فى محافظة الأقصر، ويحافظون عليها ويتوارثونها جيلاً بعد جيل.
عم «عبداللطيف»: تمنح المنازل «تكييفاً» طبيعياً بجانب قيمتها الجمالية
على أحد المقاهى، كان يجلس الحاج «محمود عبداللطيف» بلحيته الكثة، ويديه الملطختين ببقايا مواد البناء، وهو أحد المتخصصين فى بناء هذا النوع من المبانى، الذين تعلموا تلك المهنة من حسن فتحى، الذى أسس قرية «القرنة» القديمة، لتكون نموذجاً مطوراً لهذا النوع من العمارة.
الرجل صاحب الـ55 عاماً، بدأ العمل فى بناء القباب فى قرية حسن فتحى، ورغم أن القرية تهدّمت بشكل شبه كامل، ولم يتبقَ منها سوى 3 بنايات، إلا أنه ما زال هناك قلة من أهالى القرية يعاودون بناء منازلهم على نفس شاكلة الطريقة التى كانت تعتمد على القباب فى تصميم المنازل ذات الطابق الواحد، أو الطابقين على الأكثر.
بزهو شديد، يحكى «عبداللطيف» عن القباب العملاقة التى تكفل وحده ببنائها فى مساجد مشهورة داخل الأقصر وخارجها، مشيراً إلى أن إسهاماته لم تقتصر على العمائر الدينية الإسلامية، بل امتدت إلى ترميم دير «مار جرجس» القديم بالأقصر، وتصميم وبناء الكثير من قباب الكنائس والأديرة.
لا يتقاضى «عبداللطيف» شيئاً نظير مشاركته فى عمارة «بيوت الله»، سواء الإسلامية منها أو المسيحية، ويعتمد فى مصادر دخله على المنازل ذات القباب، التى يبنيها فى المدن والقرى السياحية، فى أسوان والبحر الأحمر، مشيراً إلى أن هيئة القباب تزيد من تلك المناطق جمالاً، وتُضفى عليها رونقاً يعشقه الكثير من السياح، مما يدفع الكثير من أصحاب القرى السياحية لطلبه لبناء قباب لهم.عمارة البنايات ذات القباب حسب «عبداللطيف» لا تقتصر فائدتها على المشهد الجمالى، لكنها أيضاً تمنح المنازل «تكييفاً» طبيعياً، حيث تعطيها دفئاً فى الشتاء، وهواء وبرودة فى الصيف.
لكن تحتاج عمارة القباب إلى صبر كبير وحس فنى، من جانب «عبداللطيف»، يقول: «ولا يفلح فيها أى حد مش صبور»، لما يتكبّده من عناء خلال وضع تصميم تلك القبة، ووضع قوالب الطوب والحجارة، حيث يُحدّد مساحة القبة، ثم يقوم برسمها على أوراق بأكثر من شكل وفق مساحتها وهيئة المبنى، ويحدّد شكل «المقرنصات» التى تحمل هذه القبة، وهى شكل هندسى يُبنى من الطوب ويُوضع فى جنبات القبة، ويعرض تلك الرسوم على مهندس المشروع، ليختار ما يناسبه فيها.
ويشير «عبداللطيف» إلى أن هناك الآن أنواعاً متعدّدة من القباب «الغربى» و«المخلوطة»، «المسدسة» و«المثمنة»، و«الدائرية»، و«نصف الدائرة»، أما بالنسبة لقُبب المقامات الصوفية التى فتح عينيه عليها، وهو صغير، وكانت تنتشر بين منازل قريته الفقيرة، فيقول إنها كانت تُبنى حينها بعشوائية وبالطوب اللبن، وكان هناك نوعان فقط من القبب، وهى المغربى والنصف دائرى، لكن اليوم دخلت أشكال جديدة ومستحدثة أكثر فنية وأكثر تطوراً وأكثر إبداعاً، باستخدام «المقرنصات» ومدرجات لإظهار الشكل الجمالى.
ويُحدّد «عبداللطيف» مدة عمله فى القبب من خلال مساحتها وحجمها، وكان أكثر ما أجهده منها قبة مسجد فى قرية المطاعنة، استغرقت منه 25 يوماً كاملة، أما آخر قبة عمل عليها، فكانت مساحتها 4 أمتار فى 4 أمتار، واستغرق بناؤها ستة أيام.
أما أكثر ما يعانى منه «عبداللطيف» الآن، فهو إحجام أهالى قرى الأقصر عن البناء بالقبب، مشيراً إلى أنه نادراً ما يأتيه، بين الحين والآخر، من يحتاج إلى بناء قبة فوق منزله، وهو الأمر الذى يرى أنه قضى على الشكل الجمالى المرتبط بتراث الأقصر، وأصبحت كل القرى مبنية بالخرسانة وبشكل عشوائى غير معبر عن ريف الأقصر ولا حضارتها.