وزير المالية الأسبق: أطالب بتجميع وإعلان مؤشرات «الثروة» فى مصر لأن سوء توزيع الدخول بشكل فاضح يؤدى إلى انتشار الجريمة والتطرف
وزير المالية الأسبق الدكتور أحمد جلال
قال وزير المالية الأسبق الدكتور أحمد جلال: إن هناك 3 أولويات ضرورية -من وجهة نظره- لتحقيق وضع اقتصادى أفضل فى هذه المرحلة، وهى تحقيق معدل نمو لا يقل عن 7%، وعدالة فى توزيع عوائد هذا النمو، ومراعاة حقوق الأجيال القادمة. وأوضح «جلال»، فى حواره لـ«الوطن»، أن الإصلاح السياسى هو المدخل الحقيقى للإصلاح الاقتصادى، ومن دونه «قُل علينا السلام». وقال إن مصر تحتاج إلى مجلس أمن اقتصادى يتبع «الرئاسة» مهمته أن يشرف ويستشرف سياسات النمو العادل وتحديد الأولويات. وأوضح أن العدالة الاجتماعية مفتاح لاستقرار وسلامة المجتمع، لكنها لا تعنى المساواة بين الجميع، بل تكافؤ الفرص، وانتقد مجانية التعليم الجامعى، مؤكداً أنها غير عادلة، ويجب أن تقتصر على غير القادرين مادياً. وحذّر الاقتصادى المرموق من التوسّع فى منح الحوافز للمستثمرين، مؤكداً أن أى امتيازات تتجاوز تكلفتها العائد منها تعتبر إهداراً للمال العام، وإذا لم نستفد من المستثمر الأجنبى «يكون علىّ بالخسارة»، فسيعطينى باليمين ويأخذ أكثر بالشمال.. وإلى نص الحوار:
د. أحمد جلال لـ«الوطن»: الإصلاح السياسى هو المدخل الحقيقى للإصلاح الاقتصادى.. ومن دونه «قُل علينا السلام»
فى هذه المرحلة، كيف ترى الترتيب الصحيح للأولويات الذى يمكننا من تحقيق وضع اقتصادى أفضل؟
- الساسة وليس الاقتصاديين هم من يضعون الأولويات، ولهذا لا بد من تنشيط الحياة السياسية حتى تتمكن القطاعات المختلفة فى المجتمع من التأثير فى ترتيب الأولويات. ما أستطيع أن أتحدث عنه هو ما أتمناه من صناع القرار. فى تقديرى أن هناك 3 أولويات أساسية فى هذه المرحلة، إضافة إلى استكمال برنامج الإصلاح المالى الحالى، أولها تحقيق معدل نمو لا يقل عن 7 - 8%، وثانيها عدالة فى توزيع عوائد هذا النمو، وهذه مسالة لا تأتى صدفة وإنما تصنعها السياسات، وثالثها مراعاة حقوق الأجيال القادمة من خلال اتباع سياسات متوازنة لا تترتب عليها مثلاً تنمية كبيرة، لكنها مفسدة للبيئة، أو يترتب عليها دين عام كبير جداً يُمثل عبئاً لا يطاق على الأجيال القادمة. هذه هى أولوياتى. أما كيف نُفعّلها فهذه قصة أخرى.
وبأىٍّ من هذه الأولويات يجب أن نبدأ؟
- الأولويات الثلاث متكاملة، وعلى صانع القرار -إن اقتنع بها- أن يشرع فيها جميعاً فى الوقت نفسه. ما حدث فى مصر فى يناير 2011 وما تؤكده خبرات الدول الأخرى أن التركيز على النمو فقط يُهدّد السلام الاجتماعى، وقد يصل الأمر إلى حد محاولة تغيير النظام.
3 أولويات لتحقيق وضع اقتصادى أفضل فى هذه المرحلة: تحقيق معدل نمو لا يقل عن 7% وعدالة فى توزيع عوائد هذا النمو.. ومراعاة حقوق الأجيال القادمة
إذاً دعنا نستوضح الأولويات الثلاث تباعاً.. بداية هل يمكن لنا تحقيق معدلات تصل إلى 7 - 8%؟ وكيف؟
- طبعاً ممكن، وقد حققنا معدلات نمو وصلت إلى نحو 7% فى عامى 2007 و2008. لكن من المهم أن نفهم من أين يأتى النمو حتى يستقيم النقاش. النمو يتحقق من 3 مصادر لا رابع لها. أولها زيادة الاستثمار المادى، وتحته يندرج الاستثمار فى البنية الأساسية والصناعة والزراعة والسياحة، إلخ. وثانيها الاستثمار فى العنصر البشرى كماً وكيفاً، أى أن يكون لديك عدد مناسب ومؤهل من قوة العمل. والمصدر الثالث، الذى أسميه بالصندوق الأسود، هو الإنتاجية، بمعنى زيادة الإنتاج من الموارد نفسها، أو الحصول على الإنتاج نفسه بموارد أقل. هذه الإنتاجية تتحقّق من استخدام تكنولوجيا حديثة، وإدارة جيدة للموارد، وإبداع فى طرق الإنتاج والتسويق إلخ. وعادة ما تحدث فى المجتمعات التى يتعرّض فيها المنتجون للمنافسة وليس الحماية، ومناخ استثمارى غير مُعرقل، فضلاً عن دور داعم من الدولة للبحث العلمى والتعليم والتدريب، وفتح أسواق جديدة، واستثناء دعم مؤقت لبعض الصناعات الواعدة.
ومن أىٍّ من هذه المصادر الثلاثة تتحقّق نسب النمو فى الاقتصاد المصرى بصورة رئيسية؟
- تاريخياً مصر ومنطقة الشرق الأوسط حقّقت معدلات نمو معقولة، لكن هذا النمو كان -بشكل أساسى- ناتجاً عن تراكم عنصرى الإنتاج (الاستثمار المادى والبشرى)، وليس الإنتاجية. هذا التعليق مبنى على دراسة أجراها الاقتصاديان دورتى دوريلاند ومارك شيفباور، ونُشرت فى كتاب قُمت بتحريره مع إسحاق ديوان عام 2016، تحت عنوان «اقتصادات الشرق الأوسط فى مراحل التحول»، وتنبع أهميته من أن النمو المستدام غير ممكن دون تحسّن مستمر فى الإنتاجية.
وكيف للحكومات أن تتّخذ من الإصلاحات ما يدعم الإنتاجية؟
- زيادة الإنتاجية تتحقّق بانتقال الموارد، مالية وبشرية، من قطاعات وأنشطة منخفضة الإنتاجية إلى قطاعات وأنشطة مرتفعة الإنتاجية. هذه الحركة قد تكون من قطاع إلى قطاع، مثل الانتقال من الاستثمار العقارى إلى الاستثمار الصناعى، أو انتقال العمالة من الريف إلى الحضر، أى من الزراعة إلى الصناعة والخدمات، أو الانتقال من نشاط إلى نشاط داخل القطاع نفسه، مثل التحول من استخراج البترول إلى صناعة البتروكيماويات. هذا الانتقال للموارد لا يتم من تلقاء نفسه، لكن من خلال سياسات دفع محفّزة. أحد أوجه الخلل لدينا أننا مشغولون أكثر مما يجب بزيادة تراكم عناصر الإنتاج، وبدرجة أقل بالإنتاجية.
فى كل مشكلة يقال: «الموارد لا تسمح».. والحقيقة أن الكثير يمكن تحقيقه بالموارد الحالية المشكلة فى إدارتها وليس ندرتها
هل يمكن أن توضح فكرتك من خلال أمثلة واقعية؟
- الحكومة فى جعبتها الكثير من السياسات والأدوات التى يمكن أن تستخدمها لتوجيه الموارد نحو القطاعات الأكثر إنتاجية، مثل الصناعة على حساب القطاع العقارى، واستخدام الموارد المتاحة بشكل أفضل عن طريق تشجيع الشركات للعمل بكامل طاقتها وتشغيل المصانع المتعثّرة، والحث على زيادة الصادرات. نقطة البداية هى رفع الأعباء غير المبرّرة عن كاهل المنتجين والمصدّرين، خصوصاً القيود البيروقراطية، إضافة إلى توفير البنية الأساسية، والاستثمار فى التعليم والتدريب والبحث العلمى وفتح أسواق جديدة. ليس من المعقول أن نستمر فى سياسات نتج عنها أن لدينا ملايين الشقق والفيلات المغلقة، فى وقت يُحجم فيه المستثمر عن الاستثمار فى الصناعة والزراعة والخدمات المنتجة والمشغلة للعمالة.
هل هذا التحول هو ما يُسمى بالإصلاح الهيكلى؟
- نعم، ويمكن إضافة بعض السياسات الأخرى التى يمكن للحكومة استخدامها لتوجيه الموارد، منها منظومة الضرائب وأسعار الفائدة والجمارك والحماية والمنافسة. الحقيقة «إحنا محتاجين نشتغل على كل حاجة».
لا أتوقع ارتفاعاً كبيراً فى الأسعار مع الزيادات المنتظرة فى الوقود والكهرباء لأننا تجاوزنا موجة تحرير الجنيه العاتية.. وزيادة الإنتاج هى العلاج الحقيقى للتضخم
الإصلاح الهيكلى بهذا المعنى مهمة صعبة تتطلب مواجهة مفتوحة مع أصحاب المصالح فى قطاعات مختلفة، ويبدو أن هذه الصعوبة دفعت حكومات سابقة إلى تحاشيه؟
- هذا يأخذنا لسؤال آخر محورى، ما الذى يجعل الساسة يتخذون السياسات التى تصب فى صالح المجتمع؟ واقع الأمر أن السياسيين يختارون السياسات الاقتصادية التى تتلاءم مع مصالحهم ومصالح من يساندونهم، وهذه السياسات تخرج لنا المنتج الاقتصادى: فقر أو غنى، تنمية أو تخلف. معنى هذا أن الأصل فى الأداء الاقتصادى هو توجّهات الساسة وليس الاقتصاديين. الاقتصادى مثل النجار، والسياسى هو من يطلب من النجار أن يصنع له باباً أو شباكاً، وبأى تكلفة. بهذا المعنى فالإصلاح السياسى هو المدخل الحقيقى للإصلاح الاقتصادى، ودون إصلاح ونضح سياسى «قُل علينا السلام».
وماذا عن دور صندوق النقد فى هذا الإصلاح الحقيقى؟
- الصندوق ساعدنا فى البدء بحل مشكلات الاقتصاد الكلى، أى فى خفض عجز الموازنة والسيطرة على الدين العام واستقرار سعر الصرف وزيادة الاحتياطات من النقد الأجنبى.. إلخ، «كتر خيره». لكن كل هذا جزء من الإصلاح أو تمهيد له. أما إصلاح الاقتصاد الحقيقى وعدالة توزيع عوائد النمو فليس مهمة الصندوق، هذه مهمتنا نحن. وعلى أى حال قصة الإصلاح الكلى لم تنتهِ بعد، وإن كان الجزء الأصعب منه قد تم إنجازه، حيث إن عجز أرقام الموازنة والدين العام والتضخم ما زالت مرتفعة.
هل تتوقع أن يعاود التضخّم الارتفاع مع الزيادات المنتظرة فى الوقود والكهرباء؟
- أتوقع ارتفاعاً طفيفاً فى مستوى الأسعار، فقد تجاوزنا صدمة تعويم الجنيه التى كانت تشبه موجة عاتية. الأسعار لن تهبط لكن معدل زيادتها، أى التضخم لن يكون كبيراً، والعلاج الحقيقى لمشكلة التضخّم هو زيادة الإنتاج. فالتضخّم فى حقيقته علاقة بين «الفلوس والبضاعة»، فحين تزيد الفلوس وتقل البضاعة ترتفع الأسعار.
كيف ترى المشروعات القومية المتعدّدة الجارى العمل فيها؟
- لست ضد المشروعات القومية، وربما كان حال الاقتصاد من حيث التشغيل والنمو أسوأ من دونها. لكن الحكم الدقيق على كل مشروع صعب لعدم توافر بيانات كافية عن هذه المشروعات. بصفة عامة واحتكاماً لمبادئ علم الاقتصاد، أستطيع أن أقول إن موارد مصر محدودة، مما يعنى أن تخصيص موارد لمشروع ما ستكون بالضرورة على حساب مشروع آخر، وبالتالى السؤال: هل ما أُنفق على أى مشروع كان أفضل استغلال للموارد؟ هذا سؤال وجيه حتى لو كان المشروع جيداً، لأنه قد يكون هناك مشروع آخر أفضل وأكثر إنتاجاً، والحاجة إليه أكثر إلحاحاً.
نحتاج إلى الاستثمار الأجنبى لكن إذا لم أستفد منه كمجتمع «يكون علىَّ بالخسارة» فسيعطينى باليمين ويأخذ أكثر بالشمال
لكن الحكومة عادة ما ترد على هذا التحفّظ بتأكيد أن تمويل هذه المشروعات من خارج الموازنة العامة؟
- هذا ليس رداً مقبولاً من الناحية الاقتصادية، لأن حديثنا عن مبدأ النُّدرة ينصرف إلى موارد المجتمع كله، سواء كانت ملكيتها عامة أو خاصة. وصانع القرار يجب أن يحرص على توجيه الموارد عامة أو خاصة فى ما ينفع المجتمع ككل، وفقاً لأولويات مدروسة. عموماً كانت جدتى تقول لى «العايط فى الفايت نقصان عقل»، أما وقد بدأنا فى هذه المشروعات، فعلينا الآن أن نفكر فى تعظيم الفائدة منها، خصوصاً أن بعضها واعد جداً، مثل محور قناة السويس.
وكيف يمكن أن نُفكر ونقترح ونُعظّم الفائدة بشكل عملى؟
- تقديرى أن هناك حاجة إلى مجلس يتبع رئاسة الجمهورية تكون مهمته أن يُشرف ويستشرف سياسات النمو العادل، وبالتالى تحديد الأولويات بشكل مدروس. فكما أن هناك مجلس أمن قومى يجب أن يكون هناك مجلس أمن اقتصادى له أهداف محدّدة، وأساليب عمل واضحة، وقنوات تواصل مع الوزارات المختلفة. هذه المهمة لا يستطيع الجهار التنفيذى المثقل بمشكلات كثيرة وعاجلة، القيام بها.
عودة إلى قضية الإنتاجية وتخصيص الموارد على مستوى القطاعات المختلفة، هل الخرائط الاستثمارية التى تروج لها الحكومة هذه الأيام إحدى وسائل صانع القرار لتوجيه المستثمر لأنشطة بعينها فى أماكن محددة؟
- ظنى أن الخرائط الاستثمارية التى لا تصاحبها حزمة تحفيزية تدفع المستثمر للتوجُّه نحو قطاعات ومناطق جغرافية معينة لن تكون فاعلة بدرجة كبيرة.
إذاً أنت من أنصار التوسّع فى تقديم حوافز للمستثمرين؟
- غير صحيح. أنا لست متحمّساً للتوسّع فى إعطاء المزايا للمستثمر، خصوصاً الأجنبى. تاريخياً، الحماية الجمركية المبالغ فيها لصناعة السيارات، على سبيل المثال، من الممكن أن تكون قد أسهمت فى سوء توزيع الثروة بين المصريين، وأسوأ من ذلك، فى إفادة المستثمر الأجنبى على حساب المستهلك المصرى، إذا تم تحويل أرباحه إلى الخارج.
صندوق النقد «كتّر خيره».. ساعدنا فى حل مشاكلنا لكن إصلاح الاقتصاد الحقيقى وعدالة التوزيع مهمتنا نحن
الحوافز إحدى الأدوات المتاحة لصانع القرار لتوجيه الاستثمار فى ما نحتاجه، لكن هذه الحوافز تشبه شعرة معاوية، إذ يجب أن تُصاغ بحيث تحقق الهدف منها وليس لمحاباة أشخاص بعينهم، وأى حوافز أو امتيازات تتجاوز تكلفتها العائد منها تعتبر إهداراً للمال العام. نحن فى حاجة إلى الاستثمار الأجنبى لأن معدل الادخار المحلى لا يتجاوز 15% من الناتج الإجمالى، وهذا لا يساعدنا على تحقيق نسبة نمو تُذكر، فنحن نحتاج إلى نسب ادخار واستثمار لا تقل عن 25% من الدخل القومى حتى نُحقق نحو 7% نمواً. الاستثمار الأجنبى هو ما يسد الفجوة بين المتاح من ادخار محلى والمأمول من استثمار إجمالى، لكن إذا لم أستفد منه كمجتمع «يكون علىّ بالخسارة»، فسيعطينى باليمين ويأخذ أكثر بالشمال، لأنه يحول أرباحه إلى الخارج، ومهمة صانع القرار أن يتأكد أن مردود الاستثمار الأجنبى أعلى من تكلفته. كنت فى مؤتمر نظمته حكومة تشيلى للترويج للاستثمار منذ أكثر من 20 عاماً، وقال وزير الاقتصاد هناك مخاطباً نحو 500 مستثمر: «لو جئتم للاستفادة من أوضاعنا السياسية والأمنية المستقرة وسياساتنا الاقتصادية المتوازنة وقوانين العدالة الناجزة، فأهلاً وسهلاً، أما إذا كنت فى انتظار مزايا وحوافز لسواد عيونكم فلن تجدوها». هذا التوجه هو ما نحتاجه فى مصر.
إذاً صانع القرار قد يلجأ إلى الحوافز كنوع من الاستسهال لأن البديل عملية إصلاح شاقة لكل جوانب الحياة؟
- الإسراف فى الحوافز لجذب المستثمر غير مجدٍ، وليست هناك طرق مختصرة لتحقيق النهضة الاقتصادية المستدامة. المسكنات والحلول المؤقتة تظل مؤقتة، وفى النهاية لا يصح إلا الصحيح، خصوصاً أننا نريد معدلاً عالياً للنمو، لاستيعاب نحو 800 ألف شخص سنوياً ممن يدخلون سوق العمل، فضلاً عن توفير فرص عمل إضافية لتقليل نسبة البطالة الحالية (ما يقرب من 12% من قوة العمل، أو نحو 3 ملايين عاطل) وفقاً للتقديرات الرسمية. هذا يُحتّم علينا العمل على تحقيق نسبة نمو فى حدود 7 - 8% سنوياً لتوفير فرص لكل هؤلاء. ما نحتاجه الفترة القادمة، بالإضافة إلى جذب رأس المال الأجنبى الجاد وتدريب العمالة بالمهارات اللازمة، مجموعة من السياسات التى ترفع الإنتاجية وتشجّع المصريين على الاستفادة أولاً من الاستثمارات القائمة قبل جذب استثمارات جديدة.
تحدثت عن العدالة الاجتماعية كإحدى الأولويات الثلاث من وجهة نظرك. لكن ما العدالة الاجتماعية؟
- العدالة الاجتماعية لا تعنى المساواة بين الجميع، لأن الأفراد يختلفون فى ما بينهم فى المجهود الذى يبذلونه فى عملهم. المفهوم الذى يتفق عليه الكثير من المهتمين بموضوع العدالة هو تكافؤ الفرص فى كل مناحى الحياة، ومنها الحصول على فرصة عمل. مديرة صندوق النقد الدولى كرستين لاجارد قالت مؤخراً إن 60% من الوظائف فى الشرق الأوسط تُتاح عن طريق «الواسطة»، وهذا أمر مزرٍ. فى المجال الاقتصادى، تحسين تكافؤ الفرص يعنى أن تقوم الحكومات بتمكين كل أفراد المجتمع من الحصول على الخدمات التعليمية والصحية وفرص التوظيف بشكل متساوٍ بغض النظر عن خلفيتهم الاجتماعية أو الاقتصادية أو المنطقة الجغرافية التى يأتون منها. غير ذلك، فإن عدم تكافؤ الفرص يؤدى إلى استمرار حلقة الفقر عبر الأجيال، ويحرم بعض المصريين من فرص الترقى فى السلم الاجتماعى. نحن فى حاجة إلى أن نسأل أنفسنا أسئلة صعبة، منها: مجانية التعليم لمن؟ هل لكل الناس؟ أم للفقراء؟ وهل هى من المهد إلى اللحد، أم حتى التعليم الأساسى فقط؟
وما الإجابات الصحيحة من وجهة نظرك عن هذه الأسئلة؟
- رأيى أن تكون مجانية التعليم حتى نهاية المرحلة الثانوية، أما بعد ذلك فيجب أن تقتصر المجانية على غير القادرين مادياً.
أعلم أن مجانية التعليم من أهم إنجازات جمال عبدالناصر، وهذه المجانية حقّقت حراكاً اجتماعياً غير مسبوق، وخلقت نوعاً من ديمقراطية التعليم. لكنها أيضاً جاءت على حساب سوء مستوى التعليم، وأسوأ من ذلك فإن المستفيدين من مجانية التعليم العالى تغلب عليهم سمة أنهم الأكثر قدرة على تحمّل تكاليف التعلم.
ما الفرق بين الحماية الاجتماعية والعدالة الاجتماعية؟
- الحماية الاجتماعية جزء صغير من العدالة الاجتماعية، ويتم فيها التركيز على أكثر فئات الشعب فقراً واحتياجاً للحماية ضد مخاطر السن والمرض والبطالة. ورغم أن الحكومة أكثر نشاطاً هذه الأيام بالتوسّع فى الحماية الاجتماعية أكثر من أى وقت مضى من خلال برامج كثيرة، مثل «تكافل وكرامة» والسلع التموينية، لكن ما زال أمامنا الكثير من المخاطر التى لا تتم تغطيتها (مثل البطالة) أو تتم تغطيتها جزئياً (المعاشات)، أو أننا فى البداية (التأمين الصحى الشامل). برامج «تكافل وكرامة»، على أهميتها، تغطى نحو 7 ملايين مواطن من بين نحو 28 مليون تحت خط الفقر. أى أننا فى حاجة إلى توسيع مظلة الحماية الاجتماعية أكثر بكثير مما هو حادث الآن.
أما بالنسبة للعدالة الاجتماعية، فكما قلت قبل ذلك من المهم العمل على زيادة تكافؤ الفرص، وأدوات تحقيق هذا الهدف هى السياسة المالية (من ضرائب وإنفاق عام) وإتاحة خدمات عامة جيدة لكل المواطنين.
لكن هل الموارد المتاحة تمكن الحكومة من الإنفاق على كل هذه البرامج؟
- من زمان، كل ما يكون هناك مشكلة يقولون لنا: الموارد لا تسمح، والحقيقة أن الكثير يمكن تحقيقه بالموارد الحالية. المشكلة فى إدارة الموارد، وليس ندرتها، وإدارة الموارد بكفاءة أهم من الموارد الجديدة. ما قيمة أن ترفع مخصّصات التعليم أو الصحة مثلاً ثم تذهب هذه الزيادة إلى أجور الإداريين؟ هذا أمر ينطبق على كل الوزارات والهيئات. تذهب مثلاً لزيارة مركز شباب فتجد مبانى وموظفين ولا تجد أنشطة، لأن معظم المخصّصات تذهب للأجور.
الفجوة المتسعة بين الأغنياء والفقراء موجودة فى كل دول العالم، لكن هل لدينا فى مصر بيانات تُحدّد حجم هذه الفجوة؟
- للأسف ليس لدينا فى مصر بيانات جادة عن توزيع الدخول والثروات. نحن فقط نرى انتشاراً للعشوائيات والكومباوند، فندرك أن هناك خللاً واضحاً فى توزيع ثروات المجتمع. الاعتماد على مسوح إنفاق الأسرة معيب فى رصد الظاهرة، لأنها تركز على الإنفاق وليس الدخل، فضلاً عن أن هذه المسوح عادة لا تشمل نسبة الـ1% الأغنى فى مصر.
وأود أن أستغل هذه الفرصة لدعوة وزارة التخطيط للاهتمام بتجميع ونشر مؤشرات ترصد توزيع الثروة فى مصر تماماً كما تتابع بدقة معدلات نمو الناتج المحلى الإجمالى ومكوناته. العدالة ليست ترفاً، فسلامة المجتمع واستقراره مرتبطان بالعدالة وتمكين كل فئات المجتمع من الترقّى. أخشى أن سوء توزيع الدخول والثروات بشكل فاضح يؤدى إلى انتشار الجريمة والتطرّف وعدم الاستقرار.
ما أكثر ما يُقلقك فى المشهد الحالى؟
- نحن ما زلنا فى مرحلة تحول، وأكثر ما يُقلقنى أن مراحل التحول فى حياة الشعوب لا تنتهى بالضرورة نهايات سعيدة. أخشى أن يتبخّر الزخم الذى تلا ثورتى يناير 2011 ثم يوليو 2013، دون أن ننجح فى التحول نحو مجتمع أكثر انفتاحاً ورفاهة وعدالة. فى 25 يناير 2011 وصلنا إلى مفترق طرق، ثار الناس فيه على نظام كان عقده الاجتماعى: أن نوفر لكم قدراً من الرفاهة الاقتصادية وانسوا مسألة الحريات وتداول السلطة. جرى الكثير من الأحداث منذ ذلك التاريخ وما زالت لدينا الفرصة فى كتابة عقد اجتماعى يضمن الرفاهة الاقتصادية والعدالة الاجتماعية والحرية المسئولة. فى هذا الإطار فلتكن نقطة البداية تفعيل دستور 2014، والبناء على ما تم إنجازه حتى الآن. إذا حدث ذلك نكون قد وضعنا أقدامنا على بداية الطريق لتحقيق نهضة اقتصادية حقيقية.
د. أحمد جلال خلال حديثه لـ«الوطن»