«قصب السكر» من الأرض إلى المصنع.. موسم «كسر» الفلاح
قصب السكر أحد أهم المحاصيل فى قنا
انتهى يومٌ شاق من أيام «كسر القصب»، وتحت مظلة من الخشب جلس الستينى، محمود أحمد، فى مقدمة أرضه الزراعية، مرتدياً عباءته البيضاء، يلتقط أنفاسه فى هدوءٍ بعيداً عن حرارة شمس الظهيرة المرتفعة، ومن أمامه مساحة من الأرض واسعة تراصت فيها أكوام القصب فوق بعضها البعض، حصيلة يوم بدأ مع بزوغ الفجر، حينما انصرف «محمود» من بيته فى قرية الحلفاية بحرى، بمركز نجع حمادى، قاصداً محصوله الذى مر على وجوده بالأرض 11 شهراً، وها هو وقت الحصاد قد حان. «عرفنا زراعة القصب ده عن جدودنا وجدود جدودنا»، يقولها «محمود» بنبرة لا يدرى سامعها أكانت نبرة فخر بهذه المهنة التى توارثتها عائلته واحداً بعد الآخر حتى وصلت إليه، أم نبرة أسى على أعوام عمر مضى لم يخل من أزمات فى هذا الموعد من كل عام، فهو يحفظ التاريخ ويعلم أن بدء زراعة القصب فى مركزه يعود إلى عقود طويلة مضت، وتحديداً عام 1896 من الميلاد.
يرجع «محمود» أهمية زراعة القصب فى نجع حمادى على وجه التحديد إلى وجود «مصنع نجع حمادى للسكر» ، فهو أحد المصانع المؤسِسة فى صناعة السكر فى مصر وأهمها، ويتحدث عن أيام ما كانت زراعة القصب تقتصر على الصفوة، قائلاً: «القصب زمان مكانش أى حد يقدر يزرعه، وكان اللى بيزرعه بيتقال عليه البرنس، لكن من بعد السد العالى بقى أى حد يزرعه حتى اللى عنده فدان واحد».
«محمود»: «لولا العار كنت سبت الأرض من غير زرع.. والواحد بيقول الحمد لله والزرعة اللى ما بتغنيش بتستر»
ترجع شهرة زراعة القصب فى محافظة قنا لكونها واحدة من محافظات ثلاث (مع الأقصر وأسوان)، هى الأنسب من حيث المناخ لزراعة قصب السكر، وهى أساس زراعة القصب فى مصر، ويتحدث «محمود» عن موسم الزرع الذى يكون ما بين شهرى مارس ومايو، يظل بعدها القصب فى الأرض إلى العام التالى، وخلال العام يمر بمراحل متعددة بعد زرع نبتة القصب نفسها فى الأرض، فيتم عزقه 3 مرات متتالية فى الشهرين الأولين، ثم تكون مرحلة أخرى يتوقف فيها العزق ويكتفى الفلاح بتنظيف الأرض يدوياً من الحشائش لمدة قد تصل إلى 4 أشهر، ثم يتم بعد ذلك تربيط القصب فى بعضه البعض حتى لا يتساقط فتأكله الفئران، ويظل على هذا الوضع حتى شهر يناير حيث موسم الحصاد.
اختلفت إنتاجية الفدان من القصب عما كانت عليه قبل عقود، حسب «محمود»، فقديماً، على عهد آبائه وأجداده، كان متوسط إنتاجية الفدان 70 طناً من القصب، بينما متوسط إنتاجية الفدان الآن تتراوح ما بين 30 إلى 40 فداناً، وهو ما أرجعه إلى أسباب عدة، من بينها ضعف التربة التى تجهدها زراعة القصب عاماً بعد عام دون تهوية، معللاً عدم تهويتها قائلاً: «صعب نعمل ده دلوقتى، الأول كانت شركة السكر هى اللى بتتبنى الموضوع، وكانت كل 5 سنين بتريح مساحة كبيرة من الأرض، لكن دلوقتى همّا رافعين إيديهم».
لا يتمكن «محمود» من تهوية أرضه من نفسه، فجميع الأراضى من حوله تزرع قصباً، وهو ما قد يضر أى محصول آخر يريد زراعته، إضافة إلى الديون المتراكمة عليه لبنك التنمية والائتمان الزراعى والتى ستتضاعف فى حالة عجزه عن السداد، موضحاً أن هذا أثر أيضاً على دورة القصب فى التربة، فبعد أن كانت قديماً 5 سنوات يظل القصب فى الأرض دون رمى نبتة جديدة ويحصد كل عام دون استخدام للكيماويات والاعتماد فقط على الأسمدة العضوية والطبيعية، أصبحت الآن 3 أعوام فقط ولا بديل عن استخدام الكيماوى. خدمات عديدة حُرم منها مزارع القصب على مر سنين طويلة مضت، وأزمات مختلفة يمر بها طيلة عام الزرع والحصاد، حسب قول «محمود»، كان أولها تهالك خطوط قطارات «الديكوفيل»، التى كانت تنقل محصول القصب إلى شركة السكر، وهو ما زاد عليه أعباء كثيرة، وتكلفة أصبح يتحملها للشحن والنقل تصل إلى 70 جنيهاً للطن الواحد، فضلاً عن الأسمدة والكيماويات التى ارتفعت أسعارها، إلى جانب الديون المتراكمة عليه، ما جعل استفادته من زراعة القصب تكاد تكون معدومة، على حد قوله. إلا أنه رغم ذلك لا يملك حلاً آخر: «اللى جابرنى إنى متعاقد مع شركة السكر ومتورط فى بنك التنمية بقروض بقالى 10 سنين بسحبها، ده غير إن كل جيرانى زارعين قصب يعنى مش هعرف أزرع غيره، ولولا العار كنت سبت الأرض من غير زرع».
بعض أمور بسيطة من وجهة نظر «محمود» يمكن أن تكون حلاً لأزمة مزارعى القصب فى مصر، تتمثل فى إيجاد آلية من الدولة تساعد الفلاحين على تهوية أراضيهم بعد كل دورة زراعية للقصب، أو تقسيم المساحات المزروعة كما كان فى الماضى، وحل مشاكل الديون المتراكمة، خاصة زراعة القصب الآن أصبحت معاناة لأصحاب الأرض والعاملين فيها، والأزمات تراكمية تزداد عاماً بعد عام، حسب «محمود»، الذى أنهى حديثه قائلاً: «رغم كل المشاكل دى الواحد بيقول الحمد لله، وآهى الزرعة اللى ما بتغنيش بتستر».
مزارعو القصب فى معاناة باستمرار
لمشاهخدة الصور كاملة اضغط هنا