قبل عام -قل أو يزيد- (أراد) الرئيس المعزول محمد مرسى. والصحيح (أراد له) المقربون منه أن يعيد تسويق نفسه فى «صورة جديدة» أو (نيولوك)، وهى صورة «الراعى الرسمى للفكر والفن والثقافة، والصديق الأمين للمفكرين والمبدعين»، فدعا لأول اجتماع -وبالطبع كان الأخير!- مع نخبة مختارة من المفكرين والأدباء والفنانين، كان بعضهم قد تعرض قبل هذا الاجتماع لحملة تشهير أخلاقى من قبل الفضائيات الناطقة بلسان التيار الذى آلت إليه مقاليد الحكم فى مصر، حملة نالت أعراضهم وسمعتهم وصحة إيمانهم.
كان المفكر الكبير، الأستاذ السيد ياسين، على رأس هذه المناسبة التى جمعت عقل مصر وقلبها بالرئيس الذى لم يعرف عنه أو عن جماعته اهتمام من قريب أو بعيد بالإبداع والمبدعين، بل ولم تخلف لنا الجماعة «العقيم» التى ينتسب إليها الرئيس المعزول، أثراً أدبياً أو فكرياً أو فنياً أو علمياً يُخلد ذكراها، كما تركت غيرها من الجماعات التى عرفها تاريخ الثقافة المصرية طوال القرن العشرين. ومن بين الأسماء اللامعة التى أضاءت سماء النهضة المصرية بعد ثورة 1919، لا نكاد نجد اسماً واحداً ينتسب إلى هذه الجماعة ترك للحياة الثقافية ما تركه لطفى السيد وأحمد أمين ومحمد حسين هيكل وسلامة موسى وطه حسين والعقاد ونجيب محفوظ ومصطفى مشرفة وغيرهم من الروافد الفكرية التى غذت مجرى الثقافة الوطنية البازغ. على العكس كانت الجماعة وحلفاؤها تضيق بالإبداع والمبدعين، وتتربص بكل نبتة مزهرة يتضوع منها أريج الحرية.
فى هذا الاجتماع تكلم السيد ياسين أمام الرئيس المعزول. كانت نواياه وهو يتكلم طيبة، وسقف توقعاته عالياً، فراح يحدث رئيساً عيونه مربوطة بالماضى وحلمه «محنط» فى التاريخ، عن «الرؤية الاستراتيجية لمصر»، ونعى المفكر الكبير على الحكم الجديد، الذى جاء بعد ثورة شعبية، أن يحكم بلداً بحجم مصر من دون رؤية مستقبلية يسترشد بها ويلتمس على هديها طريقه نحو المستقبل، الذى بشرت به ثورة عارمة شقت أمام المصريين أفقاً رحباً، قبل أن تُضيق عليهم الجماعة الحاكمة، وتسد عليهم كل نافذة يتسلل منها شعاع للأمل.
كان الدكتور مرسى فى هذا الاجتماع يغالب نفسه ليطاول قامة المفكر الكبير، ويجتهد محاولاً أن يسايره، ولا بأس أن وافقه ونزل على رأيه. فى حضرة أهل الرأى والفكر كان إحساس كاذب بالانتفاخ يسكن الرئيس وتتقمصه أنواع شتى من مركبات النقص، كان يخاف أن يهزمه وهو بينهم، شعور طاغ بالدونية. فى هذا الاجتماع كنت -كما أخبرنى الأستاذ ياسين- الغائب الحاضر. فقد عرض عليه المفكر الكبير جهوداً وطنية مرموقة لصياغة رؤية مستقبلية للوطن بادرت بها الجماعة العلمية المصرية، كان من بينها دراستنا «رؤية مستقبلية لمصر 2030» التى انتهيت منها ومعى فريق من الباحثات والباحثين الشبان، فى مركز الدراسات المستقبلية بمجلس الوزراء، وأخذت من عمرنا وجهدنا السنوات الخمس الأخيرة التى هيأت لثورة 25 يناير 2011. رسمت الرؤية مسارات مستقبلية يجب أن تتحرك عليها مصر، من دولة حالها لا يخفى على أحد إلى دولة عصرية ديمقراطية متقدمة فى عام 2030، متكاملة إقليمياً ومؤثرة دولياً، والسيد ياسين الذى عاش معنا مراحل بناء الرؤية خطوة خطوة ومعه نفر لا يقل عن المائتين من الخبراء، حاول أن يوفر على الرئيس عناء البحث عن نقطة جديدة يبدأ منها بناء «رؤية» تتبناها الرئاسة وتحشد لها وتدير حواراً قومياً حولها، وعوضاً عن ذلك وجه المفكر الكبير إلى «رؤية جاهزة» تكون فى غضون ساعات قليلة بين يدى الرئيس أو من يعنيه الأمر.
أخيراً وجد السيد ياسين رئيساً يحمل حلم مصر، ولذا بدا متفائلاً فرحاً وهو يهاتفنى بعد ساعات من الاجتماع، يحكى تفاصيل ما دار، ويحثنى على اختيار الطريق والطريقة اللذين يضمنان وصول «الرؤية» إلى «الاتحادية»، واقترح علىَّ أسماء قريبة من الرئيس أعرفها وتعرفنى، وإن لم يكن بيننا ود كبير أو صغير، رفاعة الطهطاوى وسيف عبدالفتاح وباكينام الشرقاوى، لكن لا الرئيس سعى ولا أنا سعيت. وبعد شهور قليلة كنت مع الأستاذ الكبير فى مكتبه بالأهرام سألنى ولم يغادره -كعادته- الأمل، هل بلغت «الرؤية» مكتب الرئيس؟! إذا لم يكن من طريق لديك دعنى أحاول! قلت هل يجهل أستاذى المآل الذى يمكن أن تؤول إليه «رؤية مستقبلية» بين يدى جماعة مشغولة بالماضى وفراديسه المفقودة، أكثر مما هى مشغولة بالمستقبل وأحلامه الموعودة؟! وقبل أن تستجمع الذاكرة حكايات قديمة عن العلاقة الشائكة الملغومة بين المثقف والسلطان غبت فى صمت قصير قبل أن ينتزعنى صوته من الصمت المطبق ويحررنى من حرج الإجابة عن أسئلة المثقف والسلطان أيهما يذهب للآخر؟ يومها وضعت بين يدى صديقى المفكر الذى كان يخصنى باهتمامه ويأسرنى بعطفه «مخطوطة» من «الرؤية المستقبلية لمصر 2030»، وأخذت أقرأ عليه سطوراً من «سيناريو الحكم الإسلامى»، أحد سيناريوهات الرؤية التى صدرت قبل شهور من وصول الإسلاميين إلى الحكم فى يونيو 2012.
فى هذا السيناريو، والنص كاملا مستل من الرؤية، «تكون الحريات مقيدة والديمقراطية منقوصة، وحقوق الإنسان مجالا للانتقاء والاستبعاد والرقابة المقيدة، كما ستكون الأبواب مفتوحة عن سعة للتصادمات والمنازعات مع الآخر فى الداخل أو فى الخارج. وتكون العولمة بالتالى موضع انتقاد فى جوانب كثيرة ويكون الانفتاح على الأسواق الخارجية مضطرباً، وتكون التنمية الاقتصادية المعتمدة على الاستثمار الأجنبى عرضة للنكوص. وتكون الاستفادة من التقدم العلمى والتكنولوجى العالمى، ومن التطورات الحضارية المستجدة، قائمة على الشك والتردد والانتقاء السلبى فى أغلب الأحوال. وفى هذه الدولة يتوقع أن يكون التعليم عرضة لتوجهات غير حداثية، ولإملاءات طائفية أو مذهبية، ولاستبعادات عنيفة لمجالات معرفية بعينها ولفئات اجتماعية كبيرة (يتصدرها الإناث) ولإملاءات تربوية خلاقة وصحية يتصدرها الاختلاط فى مؤسسات التعليم». فهل كان الرئيس وجماعته يقبلون بتوصيف لحكمهم يهبط بهم إلى درك دولة فى العصور الوسطى، بدلاً من أن يصعد بهم وبالوطن درجات نحو المستقبل؟