عبدالغنى الجندى يكتب: مدينة على الطريقة الفرنسية
عبدالغنى الجندى
هى لا تعرف معنى للجمود.. وتعلو وتسمو فوق أى حدود.. غافلت الناس والزمن.. وغازلت التاريخ فى دلال لتبقى بين دفتيه إلى أن آن أوان ميلادها.. منذ أكثر من خمسة وثلاثين قرناً من الزمان، انحسرت مياه البحر فيها ليهرب موسى ومعه العبرانيون.. بعد أن استعبدهم فرعون مصر.. فكانت أرض الهروب.. والخروج إلى الشتات.. هى أرض قبلتها أقدام المسيح ومريم العذراء.. واستقبلت يوسف الصديق.. فكانت هى أرض الملاذ.. والأمان.. لم يعرفها الناس فى غابر الزمان.. إذ كانت هى الممر إلى العالم البعيد فى جزر الهند والصين.. فى قلب أرض الحجاز.. بل هناك فى موضع الشمس عند الشام وطريق الحرير.. كانت أرضاً غامضة.. عصية على الفهم والتفسير.. كبقية أرض مصر.. إلى أن انفكت لغتها القديمة (الهيروغليفية).. عندها تغيرت خرائط (بطليموس والأدريسى).. عندما كانت مجرد نقطة بين بحيرات التمساح والمنزلة والبردويل.. مذ كانت تلك النقطة هى ما بين المقاطعة الثامنة فى وادى الطميلات.. والمقاطعة الرابعة عشرة شمال شرق الدلتا عند (ثارو).. وتلك كانت منطقة نهاية الشرور فى وادى الغموض.. فى كتب التاريخ.. وأساطير حكايات الفراعنة الأوائل.. من عندها خرج الإسكندر الأكبر.. ولم يعد.. وجاءها نابليون بونابرت.. بحملته العسكرية بعد ثورة فرنسا.. وكانت ملجأ وملاذاً لملكة مصر كليوباترا.. فحفظت أسرار أسطورة العشق والهوى.. والصراع.. فملكت مفاتيح بوابة مصر الشرقية.. فى نهايات القرن التاسع عشر.. تحت لفح الشمس.. ووسط الصحراء الواسعة فيما بين البحرين.. (الأحمر - والأبيض).. كانت هى غرفة العمليات الكبرى لأجرأ عملية جراحية، فى بطن الأرض مارسها الإنسان.. كانت طوابير الفلاحين الطويلة تتسلق الحواف الوعرة على (عتبة الجسر) تقابلها صفوف تلفحها الشمس وتتصبب عرقاً.. وألماً.. لترتوى الأرض بماء المتوسط.. الذى راح يتوضأ بماء البحيرة فى قلب البرزخ الصحراوى.. وتنشأ مدينة تسمت حينها (فينسيا) الصحراء.. مدينة ملآنة بالزهور على الطريقة الفرنسية.. عرفت كيف تزرع فى قلب الصحراء أشجار وزهور (الجركندة) الزرقاء.. مدينة برائحة الورد والفل والياسمين.. مدينة ذات ثوب ناصع.. تراقصه نسمات البحر.. الهارب إلى قلب البحيرة.. تختبئ وسط موجاته الرقيقة.. مدينة تشبه الشمس حين شروقها.. فتبدو مترعة بأريج الأنوثة البضة.. لا.. بل هى تشبه المستحيل.. حينما تلمح فيها تخطى الجغرافيا.. واستئثار التاريخ.. واستبدال مفاهيم علم الاجتماع.. وديناميكية السكان.. حين أعطت لنفسها خصوصية (المورفولوجى) الذى صنعته بأناملها الرقيقة عبر الزمن الطويل.. وزادت عليه موسيقى النوارس.. وأمزجة الدراويش.. مدينة علمت الشرق معنى المهرجانات والإبداعات.. فكان من أجلها إبداعات (فيردى) فى أوبرا عايدة.. تكريماً لملوك العالم يوم مدت الموائد وانسكبت كؤوس وزجاجات (الخطل) الإمبراطورى.
هى بكل الزهو.. وربما بعض من الغرور (الإسماعيلية).
مؤرخ ورئيس المركز الوثائقى للمعلومات بالإسماعيلية