فى المقال السابق من هذه السلسلة، وقفنا فى فقرته الأخيرة، أمام مفارقة ما أجمع عليه معظم المشاركين، فى مؤتمر «عناصر داعش ما بعد سوريا والعراق»، من أن خطر استغلال الأوضاع السائلة فى ليبيا، كى تكون محطة مركزية لتهديد جوارها الجغرافى، هو إحدى استراتيجيات تنظيم «داعش» شبه المعلنة، والإجماع هنا تشاركت فيه القراءة المصرية التى قمت بتقديمها مع نظيرتها المغربية والليبية، وأكدت ذات الرؤية القراءة الأفريقية التى قدمت من باحثين ومتخصصين من تشاد والنيجر ومالى.
وباعتبار القائم على تنظيم الفعالية «المركز الدولى للدراسات الاستراتيجية الأمنية والعسكرية»، بالعاصمة تونس، فقد كان التمثيل التونسى متنوعاً وشمل معظم أوجه التخصص المعنى، بمتابعة ورصد مهددات «الإرهاب» و«النشاط المسلح»، من باحثين وبرلمانيين حزبيين ومستقلين، وممثلين للمجتمع المدنى التونسى النشيط، فضلاً عن العديد من ذوى الخلفيات والخبرات الأمنية والعسكرية، أدى هذا بالطبع لأن تحتل القراءة التونسية مساحة مكثفة ومعمقة، من جوانب الظاهرة المختلفة، منها تبنى المركز الدولى، بمشاركة عدة أطراف من ممثلى المجتمع المدنى التونسى، قضية كشف وملاحقة القائمين على «شبكات التسفير»، وإخضاعهم للتحقيقات القانونية، على خلفية تورطهم فى دفع ومساعدة الشباب التونسى، فى مراحل مبكرة ما بعد الثورة التونسية 2011، للسفر إلى مناطق الصراع المسلح وبالأخص سوريا.
ما بدا أنه مشكلة تونسية محلية فيما طرحه المركز الدولى، تجاوز ذلك منطقياً إلى الذهاب بأن واقع السنوات التى تلت التاريخ المذكور، أكدت بأحداثها وتداعياتها، أن مشكلة «شبكات التسفير» هى قضية عابرة للمحلية التونسية، ممتدة ومشتبكة مع جوارها الجغرافى، فضلاً عن أطراف إقليمية دأبت على استثمار مناطق بعينها، كى تغذى وتدعم هذا النشاط، الذى يعد الحلقة الأخطر فى سلسلة التهديد لـ«النشاط الإرهابى»، بالنظر أيضاً إلى موجته العكسية، وهى عودة هؤلاء «المقاتلين» إلى أوطانهم ومدنهم الأصلية، وعن هذا كان الهم التونسى ظاهراً ومعبراً عن قدر كبير من القلق المشروع.
بعد أقل من أسبوع من هذا الحديث، الذى دار بتونس، جاء النموذج العملى لكل تلك الأطروحات والتقديرات، ليطل برأسه فى زمان ومكان أحداث الهجوم على «مقر مفوضية الانتخابات»، بالعاصمة الليبية طرابلس، وبتبنى تنظيم «داعش» للعملية والتفجير الانتحارى المصاحب لها، خرج للعلن «تقرير استخباراتى» غربى أشرنا إلى معلومة مقتضبة منه فى مقال الأسبوع الماضى، وهى كانت تحديداً ترصد عملية «الموجة العكسية»، التى جرى تناولها باستفاضة قبل أيام فى تونس، وحدد التقرير أن عودة مقاتلى «داعش» للتمركز بالغرب الليبى، قفز خلال ثلاثة أشهر من 150 إلى 800 مقاتل، باستهداف بداية فصل جديد يمكن خلاله إعادة استثمار الموقع الجغرافى المشار إليه لإعادة التموضع، ولتجديد إنتاج الخطر والتهديد المسلح عبر قطع الطريق على أى عملية سياسية، من المزمع الوصول إليها ما بين الأطراف الليبية.
«التقرير الاستخباراتى» به قدر عال من المهنية وصدقية معلوماته، عمل على إعداده مجموعة من العملاء المحليين، وبعض من الأجانب أصحاب الخبرة فى الداخل الليبى، وأشرف على تدقيق ما جاء به وعلى العمل الميدانى الذى سبق إنجازه، ملحق عسكرى أوروبى سابق، ظل يعمل لسنوات فى سفارة بلاده أثناء حكم الرئيس القذافى، حظى خلالها بصلات وثيقة مع أطراف مؤثرة وفاعلة داخل أركان النظام وخارجه، ويتوقع أن الاستعانة بهذه الشخصية المخضرمة لإنجاز التقرير تؤكد أنه سيجد طريقه سريعاً لقادة الدول المعنية سياسياً بما يجرى وسيجرى فى ليبيا مستقبلاً، كى تتم صياغة قرارات تلك الدول على ضوء ما حمله لها تقرير من هذا النوع، يضع تقديراً دقيقاً للموقف فيها.
رصد التقرير فى البداية؛ تحركات وتمركزات مقاتلى «داعش» فى مدينة «سرت» الواقعة فى منتصف الساحل الشمالى لليبيا، حيث حاول التنظيم فى عام 2015 تحويلها إلى مقر له، إلا أنه تمت هزيمته فيها عام 2016، فى عملية حصار وهجوم عسكرى قامت بها قوات «البنيان المرصوص» التابعة لحكومة السراج بطرابلس، ووفق التقرير، لم يتمكن من الخروج سوى عدد لا يتجاوز الـ«50 مقاتلاً»، فروا إلى مناطق الجنوب الليبى، وأفرد التقرير مساحة مفصلة؛ تحدث فيها عن معارك الجيش الوطنى الليبى بقيادة المشير خليفة حفتر، ونجاحه فى هزيمة العديد من التنظيمات الإرهابية وخلايا التطرف، وتطهير معظم الشرق الليبى وبالأخص مدينة بنغازى ثانى المدن الكبيرة الليبية، وحدد التقرير أماكن فرار مقاتلى «داعش» بعد تحطيم قدراتهم فى الوسط والشرق، إلى (إقليم فزان) الذى استقبل العدد الأكبر، والبعض منهم توجه إلى مدن (طرابلس، صبراتة، الخمس، مصراتة) فى الشمال الغربى للبلاد.
فقرة مطولة بالتقرير رصدت مسارات تنامى أعداد مقاتلى «داعش» فى الآونة الأخيرة، قسم منهم عبر الحدود الجنوبية الهشة، مقبلين من الوسط الأفريقى «دول الساحل والصحراء»، إما يحملون جنسيات تلك الدول وآخرون استخدموها كمحطات مرور آمنة، هؤلاء انضم غالبيتهم إلى التجمع الداعشى فى فزان، لكن بعضهم بمساعدة محلية تمكنوا من الوصول إلى مدن الشمال الغربى، ليقفزوا بالعدد لما تمت الإشارة إليه فى صدارة التقرير، وهناك مسار آخر أقل فى استخدامه، وهو التسلل عبر الحدود التونسية والجزائرية، للانضمام إلى محور الشمال الغربى الليبى.
ورغم خطورة وأهمية التنامى الحالى لمقاتلى «داعش»، بهذا المحور الأخير، خاصة أنه يضم فى القلب منه العاصمة طرابلس، إلا أن تأكيدات التقرير تحدد (إقليم فزان) باعتباره المنطقة التى ستشهد تحويلها إلى ملاذ آمن للتنظيم وعناصره المقبلة، ولا يخص التقرير فى هذه النقطة أن ليبيا هى وحدها المستهدفة بالتهديد، بل رصد وصول قيادات داعشية تحمل جنسيات غير ليبية، هى مراهنة استراتيجية للتنظيم نرى أنها تتسق مع ما أطلق عليه (إمارة فزان)، كى تحتل موقعها وسط جوار جغرافى يبدأ بمصر ولا ينتهى عند المغرب، بل يستند جنوباً أيضاً على «دول الساحل والصحراء» بالوسط الأفريقى.