أدرك واضعو مسودة دستور 1954 -أى منذ نصف قرن- ضرورة تحجيم سلطات رئيس الجمهورية حتى لا يساعد الدستور على تنصيب فرعون لمصر يجمع فى يده جميع السلطات، فنصت المادة (111) على أن «يتولى رئيس الجمهورية جميع سلطاته بواسطة الوزراء، وتوقيعاته فى شئون الدولة يجب لنفاذها أن يوقع عليها رئيس مجلس الوزراء والوزراء المختصون، وأوامره، شفوية كانت أو كتابية، لا تعفى الوزراء بحال».
وهذا النص على ما فيه من تقييد لسلطات رئيس الجمهورية لضمان عدم «فرعنته»، فيه نظر إلى الصالح العام للوطن من ناحية، ويقيم ويفترض مسئولية تضامنية مع رئيس الجمهورية يشاركه فيها رئيس الوزراء والوزراء المختصون من ناحية أخرى، وحتى لا تضيع أو تشيع المسئولية عن القرارات الخاطئة حرص الدستور على النص بأن أوامر رئيس الجمهورية شفوية كانت أو كتابية، لا تعفى الوزراء من المسئولية.
وقررت المادة (116) المسئولية التضامنية للحكومة أمام مجلس النواب عن السياسة العامة للحكومة، وكذلك مسئولية كل وزير عن أعمال وزارته، وسهلت تلك المادة إجراءات طرح عدم الثقة بالحكومة؛ بأن جعلت جواز ذلك من سلطة عُشر الأعضاء الذين يتألف منهم مجلس النواب، وبإعمال المادة (52) التى حددت عدد أعضاء مجلس النواب بمائتين وسبعين عضواً، فإنه يكفى لطرح عدم الثقة فى الحكومة سبعة وعشرون عضواً فقط. أما سحب الثقة من الحكومة أو من أى وزير فقد قررته المادة (117) بأنه يتم بالأغلبية البسيطة من الأعضاء الذين يتألف منهم المجلس. وهذا النص يضع أى حكومة تحت الرقابة المشددة من قبل مجلس النواب، لأن إسقاطها ليس بالأمر المستحيل.
أما اتهام الوزراء، فقد نظمه دستور 54 بنص واضح لا يقبل التأويل أو التفسير أو الاجتهاد، وقد أعيتنى الحيل والوسائل حين كنت نائباً فى مجلس الشعب لإصدار قانون لمحاكمة الوزراء، وتقدمت به لثلاث دورات تشريعية، ولم ير النور لأن أغلبية المجلس وقتها كانت منحازة إلى الحكومة وليس إلى الشعب، وكان يهمها فى المقام الأول رضا السلطة التنفيذية التى تُزوّر الانتخابات وتضمن لهم الاستمرار فى مقاعدهم، وبالتالى فإن رضا الشعب أو الجماهير لا قيمة له، فالسلطة التنفيذية هى التى تشكل المجلس على هواها وليست الجماهير صاحبة الحق ومصدر السلطات، فنصت المادة (120) من المسودة على أنه «لكل من مجلسى البرلمان من تلقاء نفسه أو بناءً على طلب النائب العام حق اتهام الوزراء فيما يقع منهم من الجرائم بسبب تأدية وظائفهم، والوزير الذى يُتَّهم يوقف عن العمل إلى أن يُقضى فى أمره، ولا يمنع استعفاؤه من إقامة الدعوى عليه أو الاستمرار فيها، وتكون محاكمة الوزراء أمام المحكمة العليا الدستورية، وفقاً للأوضاع والإجراءات التى ينص عليها القانون».
وتسحب المادة (121) سلطة العفو عن الوزير المحكوم عليه من رئيس الجمهورية، فنصت على أنه «لا يجوز العفو عن الوزير المحكوم عليه من المحكمة العليا الدستورية، إلا بموافقة كل من مجلسى البرلمان»، وهذا النص يجعل المحاكمة فاعلة والعقوبة ناجزة. وبالنسبة للسلطة القضائية، فقد أدرك واضعو مسودة دستور 54 أهمية استقلال القضاء، فأوكل ندبهم وتأديبهم إلى مجلس القضاء الأعلى، ونزع سلطة الندب من وزير العدل -التابع إلى السلطة التنفيذية- وكذلك لم يُعهد لإدارة التفتيش القضائى بأى سلطان على القضاء، وهو تابع أيضاً لوزير العدل، وأوكل أمور القضاة جميعها إلى مجلس القضاء الأعلى. كذلك حرص الدستور على إحاطة الجرائم السياسية وجرائم الرأى والصحافة بحصانة خاصة بالنص فى المادة (129/2) على أنه «وفى مواد الجنايات والجرائم السياسية وجرائم الرأى والصحافة وغيرها من الجرائم التى يحددها القانون يتولى التحقيق قضاة».
ولإحكام الرقابة المالية على ممارسات الحكومة والوزراء نصت المادة (153) على أنه «لا يجوز للحكومة عقد قرض أو الارتباط بمشروع يترتب عليه إنفاق مبالغ من الخزانة العامة فى سنة أو سنوات مقبلة إلا بقانون»، وهذا يعنى وجوب موافقة البرلمان بمجلسيه وإصدار قانون حتى تتمكن الحكومة من الاقتراض، وهذا أمر بديهى، لأن الشعب هو فى النهاية من سيتحمل سداد هذه القروض وفوائدها وليست الحكومة، بعكس ما يحدث الآن ومنذ عقود حيث الاقتراض بلا ضوابط أو رقيب أو محاسبة. وتأكيداً للرقابة على المال العام أعطى دستور 54 مراقبة إيرادات الدولة ومصروفاتها إلى البرلمان، ويعاونه «ديوان المحاسبة»، وهو ما يعادل الجهاز المركزى للمحاسبات الآن، فنصت مواد إنشاء ديوان المحاسبة على استقلاله ومسئوليته أمام البرلمان، ونصت على عدم جواز تعيين رئيس الديوان إلا بموافقة البرلمان وحظر عزله إلا بموافقته أيضاً، وذلك فى المواد من (167) إلى (172) من مشروع الدستور.
وحرص المشرع كذلك على رعاية الدولة للمجندين، وكفل لهم تثقيفهم وتعليمهم الحرف التى تُعينهم على الحياة بعد التسريح (م180). كما نصت المادة (184) على أن المجالس العسكرية (المحاكم العسكرية) «لا يكون لها اختصاص إلا فى الجرائم العسكرية التى تقع من أفراد القوات المسلحة».
ويبقى لى فى الختام أمل أن تضع لجنة الخمسين فى حُسبانها هذه النصوص العصرية التى سطرها نخبة من رجالات مصر فى ذلك الزمان، نذكر منهم -بالترتيب الأبجدى- إبراهيم شكرى والدكتور حامد سلطان والشيخ حسن مأمون والدكتور طه حسين والدكتور عبدالرزاق السنهورى والشيخ عبدالرحمن تاج والمستشار عبدالقادر عودة (من الإخوان المسلمين) والدكتور عبدالوهاب مورو والدكتور عثمان خليل، الفقيه الدستورى العملاق، وعلى ماهر باشا، رئيس اللجنة، وفكرى أباظة ومصطفى مرعى ومكرم عبيد وغيرهم. فهل كان هؤلاء العظام سابقين لعصرهم أم تُرانا نحن أبناء هذا الجيل قد تخلفنا دستورياً وسياسياً وأصبحت حقوق 1954 أمنيات بعيدة المنال فى 2013؟