منظمة «هيومن رايتس ووتش»، المنظمة المستقلة غير الحكومية الأشهر على المستوى الدولى، اسمها بالعربية «مراقبة حقوق الإنسان» تعبيراً مباشراً عن نشاطها. مقرها الرئيسى مدينة نيويورك، منذ تأسست 1978م بغرض المراقبة والتحقق من أن الاتحاد السوفيتى يلتزم بـ«اتفاقات هلسنكى»، التى صدرت 1975م، لتنظيم العلاقات الأمنية والعسكرية داخل القارة الأوروبية حينئذ، ما بين الكتلة الشرقية والغربية. سرعان ما توسعت فى نشاطها لتضم لمجال عملها مدى التزام الدول الاشتراكية بالأحكام المتعلقة بحقوق الإنسان، وفى 1988م تنجح فى ضم كل المنظمات العاملة بالمجال ذاته فى اندماج أصبح هو الأكبر والأشهر فى المجال الحقوقى. لتبدأ بعده فى نشر مكاتب لها فى لندن وبروكسل وموسكو وهونج كونج، فضلاً عن المكاتب العديدة لها فى الولايات المتحدة. ويمكن اعتبار فوزها بجائزة «نوبل للسلام» عام 1997م هو ذروة نجاحها، وإثبات جدارتها الدولية فى مجالها، خاصة أنها جاءت على خلفية جهودها لمناهضة استخدام الألغام الأرضية.
من الأمثلة الأخرى المسجلة كنجاحات لـ«هيومن رايتس ووتش»، والتى أسهمت فى صناعة سمعتها ومكانتها الدولية، نجاحها فى اعتماد معاهدة تحظر تجنيد الأطفال فى الجيوش. كما أن لها جهوداً معتبرة فى إنشاء محكمة جرائم الحرب، مثل التى جرت فى لاهاى بهولندا فيما يخص يوغسلافيا 1993م، ونظيرتها بتنزانيا فيما يخص ما جرى بدولة رواندا 1994م.
منذ تلك الفترة وبعد ضمانة مظلة الجائزة الدولية الأكبر «نوبل»، تدفق التمويل غير الحكومى على المنظمة بشكل أتاح لها حرية الحركة، وقدرة على الإنفاق على نشاطها، وعلى المحامين والصحفيين الاستقصائيين، وغيرهم من الباحثين والخبراء من أساتذة الجامعات المختصين فى شئون بلدان العالم. وهؤلاء يحملون مختلف الجنسيات، ويقيمون علاقات وثيقة مع جماعات حقوق الإنسان المحلية فى بلدان العالم، من خلال القضايا التى بدأت المنظمة تتبناها وتعمل عليها.
هل هذه مقدمة كافية، تدفعنا للانتباه و«الاهتمام» بأننا نتعامل مع منظمة محترفة، تعلم تماماً ما تقوم به، وتتقن صناعته. والأهم أن لديها مساحات حضور وتأثير، ووزن لا يستهان به من المصداقية فيما تطرحه، وهذا يتيح لها المضى بثقة فى المسارات التى تخطط لها؟.
وسائل النشر الإلكترونى الحديث نقلت حجم هذا التأثير نقلة هائلة، أضافت قدرة مؤثرة على النفاذ لمنظمات من هذا النوع بوجه عام، و«هيومن رايتس ووتش» بوجه خاص. حيث يمكن تصور تقرير ممهور بتوقيع المنظمة، ومنصات البريد الإلكترونى تحمله فى ثوانٍ معدودة لعشرات الآلاف، من رجال السياسة والبرلمانيين والصحافة والباحثين وقادة الرأى، فى مختلف بلدان العالم. وهنا نحن نتحدث عن تقرير متقن الصياغة والصناعة، ويستخدم المفردات والعناوين التى تهم كل المذكورين أعلاه، لذلك فهو قادر على جذب انتباههم، بل الأخطر فى سهولة تمرير وجهة النظر المرسلة إليهم. الرأى العام العالمى والمتخصصون منه المشغولون بمئات القضايا، فى حال احتياجهم لتفاصيل تخص «سيناء» ستكون «هيومن رايتس ووتش» بقياسات أوزان المصادر هى الأهم لديهم، فضلاً عن أنها مصدر لكثير من المنصات الإخبارية التى يتابعها هؤلاء، والتى ستكرر أمام أعينهم المتصفحة ما أوردته المنظمة بالضبط من معلومات، فقط بصياغات أخرى، لكنها قادرة حينها على تشكيل الرأى فيما يخص القضية محل الاهتمام.
قبل المضى قدماً إلى الجزء الأخير من المقال، قد يبدو التساؤل عن مصداقية تقارير تلك المنظمة، واتهامنا لها بالتسييس وحشو الأكاذيب فى العديد من التفاصيل. هل لا يوجد لها محل للتفنيد فى هذا المقال؟
حقيقة ما أقصده هنا هو تجاوز هذا التساؤل وطرح ما هو بعد ذلك، طالما أن التقرير الأخير الصادر بشأن «التوسع فى هدم المنازل» فى سيناء، ليس التقرير الأول ويبدو جلياً أنه لن يكون الأخير. ففيه حديث مستفيض بأرقام تحصى عدد المنازل التى قامت القوات المسلحة بهدمها، ومعها مساحات واردة فيما يخص «المزارع» التى تم تجريفها. وهناك جزء خصه للمنطقة المحيطة بـ«مطار العريش»، وبشكل مقصود قام بخلط الأرقام المتعلقة بمدينة «رفح» عامى 2014 و2015م، مع ما يدعى أنها تخص مدينة «العريش» مؤخراً منذ بداية عملية سيناء 2018 فى فبراير الماضى. وبين كل فقرة وأخرى يكرر بـ«إلحاح» على مصطلحى (الإخلاء القسرى) و(التهجير القسرى)، متجاهلاً مسألة التعويضات تارة، أو وصفها بغير الكافية عندما لا يجد بداً من ذكرها. وإن كان فى كل الأحوال لم يتطرق إلى قيمتها «المعلنة»، بأنها وصلت إلى (750 مليون جنيه) لمدينة رفح وحدها، وأنها قد تجاوزت (900 مليون جنيه) بعد إضافة تعويضات أخرى تم صرفها لما يخص مناطق أخرى.
تعمد التقرير أن يكون حديثه عن (المناطق الآمنة) بالشريط الحدودى، أو فى مناطق أخرى، بصورة غائمة وملتبسة الانطباع. رغم أن هذا من حقوق السيادة التى يكفلها القانون الدولى، للقوات المسلحة والأجهزة الأمنية فى إطار محاربتها للإرهاب، المعترف بوجوده على تلك المساحة الجغرافية من المنظمة نفسها. ما يمكن رصده من هذا التقرير الأخير، ومن قبله التقرير المطول والأخطر الصادر فى سبتمبر 2015م، بعنوان «ابحثوا عن وطن آخر.. عمليات الإخلاء القسرية فى رفح المصرية»، أن كليهما يرسخ لـ«رواية موازية» عما يجرى فى سيناء، وأن ما صدر بينهما من تقارير يأتى ليبنى فصولاً فى تلك الرواية، مثل ذلك الذى صدر أبريل 2018م، وخصص للحديث عن أوضاع إنسانية ومعيشية ضاغطة، افترض أن أهالى سيناء يعانونها بسبب العملية العسكرية. وهذا لا يمكن فهمه سوى أنه يصنع «تراكماً»، كمياً وكيفياً، لتلك الرواية الموازية، التى بها ظلال من الأحداث لكنها تقفز بها إلى تأويلات واستنتاجات، تمكنها طوال الوقت من نقد «الملف الحقوقى» المصرى ووضعه تحت الضغط. لذلك نرى أن تعاطياً مختلفاً مع تلك المنظمة أصبح واجباً مُلحاً، ولا يجوز الاكتفاء بالنفى الرسمى لما تحمله تقاريرها.. «كيف، ومن يقوم بذلك؟»، فى مقال الأسبوع المقبل بمشيئة الله.