من الصفحات المهمة فى سيرة الرسول (صلى الله عليه وسلم) حديث الإفك، الذى أشاعه منافقون كيداً للرسول وردده بعض المؤمنين عن غفلة، وهو كما سجلته سورة النور كان اتهاماً لأم المؤمنين السيدة عائشة (رضى الله عنها) فى شرفها، برأها منه رب العزة (سبحانه وتعالى) فى القرآن الكريم. ومن القصص التى توقفت أمامها فى هذه الحادثة، التى هزت مجتمع المدينة المنورة، حادثة صحابى فقير اسمه مسطح بن أثاثة كان ينفق عليه أبوبكر الصديق (رضى الله عنه)، فلما انتشر حديث الإفك الذى آذى السيدة العفيفة فى سمعتها كان ممن رددوه «مسطح».
وكما هو متوقع، قرر أبوبكر الصديق (رضى الله عنه)، فى رد فعل طبيعى، أن يوقف النفقة التى كان ينفقها على «مسطح». وقد تأملت هذا الموقف وسألت نفسى سؤالاً افتراضياً: ماذا لو قرر مسطح بن أثاثة أن هذه الصدقة الدائمة من مال أبى بكر الصديق «حق مكتسب»، ودافع عن الحق بالعنف الجسدى أو اللفظى؟!
وهو مجرد سؤال افتراضى، لكنه يحمل درساً نحتاج إلى الاستعانة به فى إحدى قضايا المشهد الراهن.
وعلى مستوى التتابع الزمنى للوقائع فقد نزل قوله تعالى: «وَلَا يَأْتَلِ أُولُو الْفَضْلِ مِنْكُمْ وَالسَّعَةِ أَنْ يُؤْتُوا أُولِى الْقُرْبَىٰ وَالْمَسَاكِينَ وَالْمُهَاجِرِينَ فِى سَبِيلِ اللهِ وَلْيَعْفُوا وَلْيَصْفَحُوا أَلَا تُحِبُّونَ أَنْ يَغْفِرَ اللهُ لَكُمْ وَاللهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ» [النور: 22]. فأعاد أبوبكر الصديق (رضى الله عنه) الإنفاق عليه.
لكن ماذا لو تصرف مسطح بن أثاثة على النحو الافتراضى المشار إليه؟ بل ماذا لو أطلق لسانه فى أبى بكر نفسه لأنه قطع عنه النفقة؟
السؤال تذكرته وأنا أتأمل «قصائد سب» غير عصماء فى الولايات المتحدة، وطبعاً لم يغب عنى أن الاعتبارات التى تحكم سلوك الأفراد لا تتطابق مع الاعتبارات التى تحكم سلوك الدول، لكن المشابهة تظل قائمة ولو بشكل جزئى!
وما لفت نظرى أن «ماسورة هجوم» ضربت فى الخطابين الإعلامى والسياسى بسبب المعونة، ولم أرَ فى هذا الطوفان الكاسح الذى تغلب عليه البذاءة كلمة امتنان واحدة لهذه المعونة التى تجاوز إجماليها منذ بدأت مصر تحصل عليها 70 مليار دولار. ولمن لا يعرف فإن قيمتها السوقية الآن تتجاوز مائتى مليار دولار، فهل الطبيعى -حتى فى حالة وجود خلاف- أن نأخذ المعونة الأمريكية ونشتم أمريكا، والأهم أن نشتمها بسببها؟!
أنا مذهول من حجم النكران وخداع النفس وخداع الشعب المصرى بقصص وقحة عن جناية المعونة على مصر، فهل شارك الرئيس الراحل أنور السادات ومعه كل وزراء الدفاع منذ نهاية السبعينات، وكل أعضاء القيادة العامة للقوات المسلحة خلال الفترة نفسها، فى مؤامرة واضحة بهذا الوضوح الذى يبدو فى الخطاب السائد عن المعونة؟!
وهل المعونات غير العسكرية هى الأخرى مؤامرة على مصر؟ إننا نعلم أبناءنا (بشكل يبعث على الرعب) أننا يمكن فى أى لحظة -حكاماً ومحكومين- أن نغدر بأى حليف، وأن نعتبر ذلك دليلاً على الوطنية!
ورفض المعونة ليس مشكلة، فهذا قرار يمكن أن يتم اتخاذه وفق الآليات الطبيعية، لكن ما يحدث شىء آخر، ما يحدث هو أن قسماً لا يستهان به مما يكتب عن المعونة هو خطاب تحكمه قاعدتان؛ الأولى: «هات حسنة وأنا سيدك»، والثانية: «اللى يعارضنا هنشقه» (بالسنجة طبعاً)!
ومن المقارنات التى يمكن أن تكشف حجم العوار الأخلاقى فى حديث كثير من مهاجمى المعونة أن نقارن هذه الهوجة المريبة بصورة شهيرة للمستشار الألمانى السابق هيلموت كول عندما تساقطت دموعه أمام الكاميرات وهو يعلن عن امتنانه لقوات الحلفاء التى كانت تحتل بلاده بعد نهاية الحرب العالمية الثانية، وكيف أنه لولا طبق حساء كان يحصل عليه ضمن طوابير من فقراء ألمانيا من أحد معسكرات القوات العسكرية للحلفاء لمات من الجوع.
وليس مطلوباً منا أن نشعر بالامتنان تجاه احتلال أجنبى، لكن الوجه الآخر لهذا الامتنان الذى لا نقبله لمحتل لى عليه ملاحظتان؛ الأولى: أنه لما كان الشىء بالشىء يذكر فإننى أسترجع هنا أن غير قليل من العلمانيين المصريين لم يتورعوا -بلا حياء- عن الدعوة قبل سنوات إلى الاحتفال بـ«الاحتلال الفرنسى» لمصر بوصفه «فجر التنوير»، ورغم هذا لم تشهد مصر دعوة إلى إقصاء هؤلاء ولم يقل أحد إن «المصالحة معهم خيانة»، ومع إقرارى بأن «الخطأ لا يبرر الخطأ» إلا أن هذه الازدواجية فى المعايير تكشف عن وجود «بنية غير ظاهرة» تتحكم فى بوصلة الخطابين الإعلامى والسياسى فى مصر، كما تكشف هذه الازدواجية عن أن أحد أهم معاييرها غير المعلنة «العداء المبدئى لأمريكا» أحسنت أو أساءت.
الملاحظة الثانية أن الحد المقبول -وطنياً وأخلاقياً وعقلانياً- أن يكون موقفنا وسطاً بين ما نرفضه وهو الامتنان للاحتلال وبين ما يستبيحه كثيرون، وهو العداء «الغامض» لأمريكا الذى وصل إلى حد «مرمغة» السمعة المهنية لوسائل إعلام عريقة، لمجرد الرغبة المهووسة فى نشر أى شىء يشيع كراهية أمريكا حتى لو كان أكاذيب ساقطة!
والقضية ليست حب أمريكا ولا كرهها بل حماية مصر من «أشباح» تريد اقتيادها تحت وطأة ظرف عارض إلى أن تصبح ساحة مفتوحة لدعوات الكراهية لخصوم الداخل وحلفاء الخارج، فالعلاقات الاستراتيجية للدول لا يجوز أن تشهد تحولات جذرية فى غياب سلطة منتخبة!