تُشكل مصر بموقعها الفريد جغرافياً وحضارتها وقوة التأثير على محيطها العربى والإسلامى أهمية خاصة لدول العالم، وبالأخص للولايات المتحدة الأمريكية، حيث قلصت مصر ومنذ السبعينات نفوذ الاتحاد السوفيتى فى منطقة الشرق الأوسط بل وفى أفريقيا وآسيا.
وبين الحين والآخر تتعالى الأصوات داخل الولايات المتحدة الأمريكية بالتلويح بتخفيض المعونة تارة أو تعليقها تارة أخرى أو بقطعها نهائياً، فى محاولة للتأثير على القرار المصرى وإظهار السيطرة عليه، وبالطبع فإن هذه المعونات الأمريكية لا تُمنح كهدايا للشعب المصرى بدون مقابل، بل إن لها مقابلا فادحا يفوق قيمتها، وقد أفاض الاقتصاديون فى شرح ذلك، ولعل أهم مقابل تحصل عليه الولايات المتحدة الأمريكية من وراء المعونة هو خدمة مصالحها وتأمين إسرائيل فى المنطقة، فلن تقوم حرب على إسرائيل بدون مصر وهذا هو الهدف الأسمى لأمريكا، صحيح أن مصر قد وقعت اتفاقية سلام مع إسرائيل ولكن من يضمن أبدية هذه الاتفاقية؟ ومن هنا كانت فجيعة الولايات المتحدة الأمريكية مما حدث فى مصر من سقوط لحكم الإخوان المسلمين، الذين ضمنوا ذلك بل ونفذوا عملياً بمنع حركة حماس من ضرب الصواريخ على إسرائيل، وبأنهم ضامنون لعدم حدوث اشتباكات أخرى، فى مقابل أن تضمن الولايات المتحدة الأمريكية للإخوان استمرارهم فى حكم مصر، وتولدت من هنا عقيدتهم -الإخوان- بأنهم سيحكمون مصر 500 عام.
والغريب أن الإخوان المسلمين يرددون أن ما حدث فى مصر كان بدعم من أمريكا، بينما يقضى المنطق بأن «الانقلاب» الأمريكى كان جديراً بدعم واشنطن ومساعدتها، وكان يتعين على البيت الأبيض وبعد أن نجح «رجاله» فى مصر فى تنفيذ أهدافه أن يزيد الدعم لا أن يهبط به إلى الحد الأدنى الذى يحفظ شعرة معاوية، ولكن هذا لم يحدث بل حدث نقيضه، بل ورأينا حلفاء واشنطن تنخلع قلوبهم على الإخوان، كما حدث فى تركيا وقطر وبعض الدول الأوروبية.
إن ردود الفعل الأمريكية ومنذ اليوم الأول للثورة لم تتغير ولم تتبدل، وإن كانت كالبندول مرة يتحرك لليمين وأخرى للشمال، وكان التنديد فى تصريحات علنية وممارسة الضغوط وتسيير الوساطات لضمان استمرار تنظيم الإخوان على قيد الحياة، ولعل اللافت للنظر توقيت إعلان الرئيس أوباما تعليق المساعدات الأمريكية العسكرية وتجميد صفقات للأسلحة، كانت مصر قد تعاقدت عليها منذ عام 2009، لقد أعلن ذلك فى اليوم التالى لإعلان موعد محاكمة الرئيس السابق محمد مرسى، وتحديد يوم الرابع من نوفمبر لبدء المحاكمة.
إذن فالمصريون مصممون على المُضى فى الطريق لنهايته -هكذا يفكرون فى الولايات المتحدة- فلا بد من اتخاذ إجراءات تصعيدية ضد نظام الحكم فى مصر الآن عله يرتدع أو يخشى.
ونستطيع القول إن هذه التصرفات الأمريكية تُنبئ عن عدم فهم واشنطن للواقع المصرى ولطبيعة الشعب المصرى الذى لايقبل أى مساس بكرامته، وهو على استعداد لتحمل أى عواقب لضمان استقلال قراره، وليس بعيداً عن الأذهان مدى المعاناة والصبر التى تحملها الشعب المصرى فى سنوات النكسة من 1967 - 1973 فكان يقتطع من قوته ويقف صابراً أمام المجمعات الاستهلاكية للحصول على حاجاته الضرورية فى سبيل توفير كل جنيه يساهم فى بناء القوات المسلحة التى تمكنت من النصر ورد الكرامة فى حرب أكتوبر المجيدة، هذا من ناحية، ومن ناحية أخرى أذكر القيادة الأمريكية بما قاله مايك مولن قائد الأركان الأمريكية السابق فى 16/2/2011 حرفياً «إن المعونة الأمريكية لمصر لا تقدر بثمن (بالنسبة للولايات المتحدة الأمريكية) ومن أبرزها سماح مصر للطائرات الحربية الأمريكية باستخدام مجالها الجوى وقت أن نشاء، وإعطاء أذونات عند الطلب لمئات البوارج الحربية الأمريكية بعبور قناة السويس، والتزام القاهرة بصرف المعونة فى شراء معدات عسكرية وبشروط أمريكية، فضلاً عن تمويل الاستشارات والمستشارين، وأن تنقل المعدات بوسائل النقل الأمريكية، وأن تساند مصر واشنطن فى حربها ضد الإرهاب، وأن تسهم فى رعاية المصالح الأمريكية فى الشرق الأوسط، وأن تمتنع مصر عن اتخاذ أى مواقف مضرة بإسرائيل»، وهكذا نرى أن ما تدفعه أمريكا لمصر هو ثمن بخس لسياسة مصرية محكومة بتحالف استراتيجى مع الولايات المتحدة.
وفى مقابل هذه المعونة فإنها قيدت هامش المناورة للسياسة الخارجية المصرية، لبلد كان قائداً للأمة العربية وله دور محورى أفريقياً وآسيوياً بل ودولياً، فضلاً عن تحمل الشعب المصرى لما يتعرض له من حين لآخر من إهانات وتهديدات بعقوبات غير مُشرفة بل ومهينة بقطع هذه المعونة، التى يعتبرها الأمريكان صدقة تمنحها واشنطن للقاهرة وليست استثماراً خارجياً «لا يقدر بثمن»، وفق ما أكده رئيس الأركان الأمريكى السابق.
من هنا أدعو وأطالب الحكومة المصرية والنظام الحاكم فى مصر بأن يبادر بإعلان الترحيب بتعليق المعونة الأمريكية وأنه لا مانع من قطعها نهائياً اقتصادياً وعسكرياً، فالشعب المصرى أكبر من أن يُهدد بقطع مليارات الدنيا، فما بالنا بأنه يُهدد بثمن بخس؟
وتتبع ذلك زيارات دبلوماسية وعسكرية لروسيا والصين بل وكوريا الشمالية، لتنويع مصادر السلاح المصرى كما فعل جمال عبدالناصر فى صفقة الأسلحة التشيكية عام 1955، وفى المقابل تُحرم القوات الجوية الأمريكية من عبور الأجواء المصرية وتقف بوارجها الحربية «فى الدور» -لعبور قناة السويس- مثلها مثل أى دولة أخرى، والأهم أن تدرك الإدارة الأمريكية الحجم الحقيقى للدولة المصرية وأن تستعيد مصر دورها الإقليمى والدولى والعربى وأن تحرر قرارها السياسى والعسكرى.
وهكذا نردع الانقلاب الأمريكى على مصر، فلن تتمكن واشنطن بكل قوتها الاقتصادية والعسكرية أن تُملى إرادتها على الشعب المصرى -بعد اليوم- والنماذج كثيرة فى كل أنحاء العالم.