الشيخ أحمد برين.. حادى القلوب
الشيخ أحمد برين
نجم لامع فى مملكة الإنشاد، فتح له تاريخ الفن أعظم أبوابه ليدخل منه علَماً شامخاً، إنه الشيخ أحمد برين الذى ملأ صيته الدنيا شرقاً وغرباً، بل المفارقة أن الغرب عرفه قبل أن يشتهر فى بلده مصر، حتى إن كثيرين لم يعرفوه إلا عن طريق شبكة الإنترنت أو من خلال أسطوانات سُجلت له فى دول أوروبية مثل أسطوانة «أغان صوفية» التى سجلها له معهد العالم العربى فى باريس عام 2003، أو من خلال إحيائه ليالى المديح والإنشاد فى مدن أوروبية عديدة. فى قرية «الدير شرق» قرب إسنا بمحافظة الأقصر سنة 1939، ولد أحمد برين، وفى سن الثالثة فقد بصره فقويت حواسه الأخرى ومعها حدسه وبديهته وقوة ذاكرته، حفظ القرآن ودرس فى كلية أصول الدين جامعة الأزهر.
تعلم فن الإنشاد وهو فى الثانية عشرة من عمره، على الشيخ سليمان حسين، فحفظ الكثير من المدائح والسير والحكايات والموشحات والمواويل بكثير من أشكال الأداء. تشرّب فنون بيئته بعد أن مزجها وهضمها فى وجدانه المبدع وخياله الثرى ليخلق أسلوبه المتفرد وليشقَّ طريقاً لم يسبقه إليه غيره مؤدياً ومؤلفاً ومرتجلاً، وبجوار الموروث العربى الإسلامى، حفظ «برين» كثيراً من الأناشيد المسيحية شعراً وأداء فأحيا الكثير من الليالى المسيحية، خاصة فى مولد السيدة العذراء فى درنكة بأسيوط.
صوته قوى آسر، يصعب وصفه، عريض متدفق عميق عطوف ثرى، يفاجئك بلا استئذان فتتملكك الدهشة لتسمع وتستمتع وتذهب معه إلى عالم بعيد، إذ لا يعتمد الشيخ أحمد إلا على صوته وحده (كما يفعل كبار القراء والمبتهلين الذين يقوم صوتهم مقام فريق موسيقى كامل) ممسكاً بالدف ليضبط به الإيقاع، ولم يستخدم الناى إلا فى القليل النادر. يمزج الدينى بالدنيوى، والحكم بالغراميات، والمواعظ الأخلاقية بالغزل، مغلفاً ذلك بحس إنسانى رحب ووعى فطرى مدهش.
يقول فى «فرش وغطا»: «فضلت أقول آه وأبكى بالدموع أيام/ ومشيت بلا وعى ما عملتش حساب الأيام/ آدينى ماشى وباتقلب مع الأيام/ فضلت ماشى وخصمى فى الطريق وعى لى/ من كتر الأفكار ربّالى هموم وعلى/ مثل سمعناه بيدوى فى البلاد وعلى/ الندل مهما على واطى مع الأيام».
فى تسجيل «رحلة الحج» ستجد الغناء كحداء الإبل فى الترحال ليهون على الإبل وعثاء الطريق، وفى «فرش وغطا» ستجد المربعات المزدوجة مع الإيقاع الحاكم والحكم والأمثال والتأملات، وستجد القول والرد كـ«فرش وغطاء» مع ابن أخته وتلميذه محمد العجوز.
وفى بداية «أنا العايب» ستجد أداء متفرداً مبهراً كتجويد القرآن، وفى «العصفور» ستجد الحكواتى يقص عليك قصة طائره الذى هجره فذهب وراءه باحثاً من أسوان إلى الإسكندرية، وفى «موسى والخضر» وقصة يوسف ستجد استلهام القصص الدينى ومزجه ببراعة فى عالم الإنشاد، مع حس إنسانى متعاطف حتى مع الخصوم، متفهماً الضعف الإنسانى فى حالة امرأة العزيز التى غلبها جمال يوسف على وقارها وحشمتها.
وبعد رحلة طويلة شاقة وممتعة، وبعد أن صدح بفنه فى ربوع المعمورة، صمت «الصييت الكبير» فقد رحل عن دنيانا فى أول مارس 2015 لتشهد بلدته جنازته الحاشدة بالمشيعين المحبين مسلمين ومسيحيين.